الباحث القرآني

ولَمّا تَقَرَّرَ بِما سَبَقَ في الَّتِي قَبْلَها مِنِ اتِّصافِهِ تَعالى بِكَمالِ العِلْمِ أنَّهُ مِن عِنْدِهِ وبِعِلْمِهِ لا مَحالَةَ، وكانَ هَذا أمْرًا يَهْتَمُّ بِشَأْنِهِ ويَعْتَنِي بِأمْرِهِ، لِأنَّهُ عُيِّنَ المَقْصُودُ [الَّذِي] يَنْبَنِي عَلَيْهِ أمْرُ الدِّينِ، وخَتَمَ ما ذَكَرَهُ مِن أمْرِهِ هَهُنا بِإقامَةِ اهْتِدائِهِمْ مَقامَ التَّرَجِّي بِإنْذارِهِ ﷺ، (p-٢٣٠)أتْبَعَهُ بَيانَ ذَلِكَ بِإيجادِ عالَمِ الأشْباحِ والخَلْقِ ثُمَّ عالَمِ الأرْواحِ والأمْرِ، وإحاطَةِ العِلْمِ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلى وجْهٍ يَقُودُ تَأمُّلَهُ إلى الهُدى، فَقالَ مُسْتَأْنِفًا شارِحًا لِأمْرٍ يَنْدَرِجُ فِيهِ إنْزالُهُ مُعَبِّرًا بِالِاسْمِ الأعْظَمِ لِاقْتِضاءِ الإيجادِ والتَّدْبِيرِ عَلى وجْهِ الِانْفِرادِ لَهُ: ﴿اللَّهُ﴾ أيِ الحاوِي لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ وحْدَهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ﴾ كُلَّها ﴿والأرْضَ﴾ بِأسْرِها ﴿وما بَيْنَهُما﴾ مِنَ المَنافِعِ العَيْنِيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الدّارُ مَبْنِيَّةً عَلى حِكْمَةِ الأسْبابِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ في لُقْمانَ، وكانَ الشَّيْءُ إذا عَمِلَ بِالتَّدَرُّجِ كانَ [أتْقَنَ]، قالَ: ﴿فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾ كَما يَأْتِي تَفْصِيلَهُ في فُصِّلَتْ، وقَدْ كانَ قادِرًا عَلى فِعْلِ ذَلِكَ في أقَلَّ مِن لَمْحِ البَصَرِ، [ويَأْتِي في فُصِّلَتْ سِرُّ كَوْنِ المُدَّةِ سِتَّةً.] ولَمّا كانَ تَدْبِيرُ هَذِهِ وحِفْظُهُ وتَعَهُّدُ مَصالِحِهِ والقِيامُ بِأمْرِهِ أمْرًا - بَعْدَ أمْرِ إيجادِهِ - باهِرًا، أشارَ إلى عَظَمَتِهِ بِأداةِ التَّراخِي [والتَّعْبِيرُ بِالِافْتِعالِ] فَقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أيْ [اسْتِواءً لَمْ يَعْهَدُوا مِثْلَهُ وهو أنَّهُ] أخَذَ في [تَدْبِيرِهِ و] تَدْبِيرِ [ما حَواهُ] بِنَفْسِهِ، لا شَرِيكَ لَهُ ولا نائِبَ عَنْهُ ولا وزِيرَ، كَما تَعْهَدُونَ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا إذا اتَّسَعَتْ مَمالِكُهُمْ، وتَباعَدَتْ أطْرافُها، وتَناءَتْ أقْطارُها، وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى اسْتِئْنافًا جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ قالَ: العَرْشُ بَعِيدٌ عَنّا جِدًّا فَمَنِ اسْتَنابَهُ في أمْرِنا، ولِذَلِكَ [لَفَتَ] الكَلامَ إلى الخِطابِ لِأنَّهُ أقْعَدُ (p-٢٣١)فِي التَّنْبِيهِ: ﴿ما لَكم مِن دُونِهِ﴾ لِأنَّهُ كُلُّ ما سِواهُ مِن دُونِهِ وتَحْتَ قَهْرِهِ، ودَلَّ عَلى عُمُومِ النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن ولِيٍّ﴾ أيْ يَلِي أُمُورَكم ويَقُومُ بِمَصالِحِكم ويَنْصُرُكم إذا حَلَّ بِكم شَيْءٌ مِمّا تُنْذِرُونَ بِهِ ﴿ولا شَفِيعٍ﴾ يَشْفَعُ عِنْدَهُ في تَدْبِيرِكم أوْ في أحَدٍ مِنكم بِغَيْرِ إذْنِهِ، [وهُوَ كِنايَةٌ عَنْ قُرْبِهِ مِن كُلِّ شَيْءٍ وإحاطَتِهِ بِهِ، وأنَّ إحاطَتَهُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ لا مَسافَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ شَيْءٍ أصْلًا.] ولَمّا كانُوا مُقِرِّينَ بِأنَّ الخَلْقَ خَلْقُهُ والأمْرَ أمْرُهُ، عارِفِينَ بِأنَّهُ لا يَلِي والٍ مِن قِبَلِ مَلِكٍ مِنَ المُلُوكِ إلّا بِحُجَّةٍ مِنهُ يُقِيمُها عَلى [أهْلِ] البَلْدَةِ الَّتِي أرْسَلَ إلَيْها أوْ نابَ فِيها، ولا يَشْفَعُ شَفِيعٌ فِيهِمْ إلّا ولَهُ إلَيْهِ وسِيلَةٌ، تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أيْ تَذَكُّرًا عَظِيمًا بِما أشارَ إلَيْهِ الإظْهارُ ما تَعْلَمُونَهُ مِن أنَّهُ الخالِقُ وحْدَهُ، ومِن أنَّهُ لا حُجَّةَ لِشَيْءٍ مِمّا أشْرَكْتُمُوهُ بِشَيْءٍ مِمّا أهَّلْتُمُوهُ لَهُ ولا وسِيلَةَ لِشَيْءٍ [مِنهم إلَيْهِ يُؤَهِّلُ بِها في الشَّفاعَةِ فِيكم ولا أخْبَرَكم أحَدٌ مِنهم بِشَيْءٍ] مِن ذَلِكَ، فَكَيْفَ تُخالِفُونَ في هَذِهِ الأُمُورِ - الَّتِي هي أهَمُّ المُهِمِّ، لِأنَّ عاقِبَتَها خَسارَةُ الإنْسانِ نَفْسِهِ، فَضْلًا عَمّا دُونَها - عُقُولَكم وما جَرَتْ بِهِ عَوائِدُكُمْ، وتَتَعَلَّلُونَ فِيها المُحالَ، وتَقْنَعُونَ بِقِيلَ وقالَ، (p-٢٣٢)وتُخاطِرُونَ فِيهِ بِالأنْفُسِ والأوْلادِ والأمْوالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب