الباحث القرآني

ولَمّا كانَ [هَذا] الَّذِي قَدَّمَهُ أوَّلَ السُّورَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ بُرْهانًا ساطِعًا ودَلِيلًا قاطِعًا عَلى أنَّ [هَذا] الكِتابَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، كانَ - كَما حَكاهُ البَغْوِيُّ والرّازِي في اللَّوامِعِ - كَأنَّهُ قِيلَ: هَلْ آمَنُوا بِهِ؟ ﴿أمْ يَقُولُونَ﴾ مَعَ ذَلِكَ الَّذِي لا يَمْتَرِئُ فِيهِ عاقِلٌ ﴿افْتَراهُ﴾ أيْ تَعَمَّدَ كَذِبَهُ. ولَمّا كانَ الجَوابُ: إنَّهم لَيَقُولُونَ: افْتَراهُ، وكانَ جَوابُهُ: لَيْسَ هو مُفْتَرًى لِما هو مُقارِنٌ لَهُ مِنَ الإعْجازِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ هو الحَقُّ﴾ أيِ الثّابِتُ ثَباتًا لا يُضاهِيهِ ثَباتُ شَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ قَبْلَهُ، كائِنًا ﴿مِن رَبِّكَ﴾ المُحْسِنِ إلَيْكَ بِإنْزالِهِ وإحْكامِهِ، وخَصَّهُ بِالخِطابِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا يَفْهَمُ (p-٢٢٨)حَقِيقَتَهُ حَقَّ الفَهْمِ سِواهُ. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ إحْسانَهُ إلَيْهِ ﷺ صَرِيحًا، أشارَ بِتَعْلِيلِهِ إلى إحْسانِهِ [بِهِ] أيْضًا إلى كافَّةِ العَرَبِ، فَقالَ مُفْرِدًا النِّذارَةَ لِأنَّ المَقامَ لَهُ بِمُقْتَضى خَتْمِ لُقْمانَ: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ أيْ ذَوِي قُوَّةٍ وجَلَدٍ ومَنَعَةٍ وصَلاحِيَةٍ لِلْقِيامِ بِما أمَرَهم بِهِ ﴿ما أتاهم مِن نَذِيرٍ﴾ أيْ رَسُولٍ في هَذِهِ الأزْمانِ القَرِيبَةِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ المُرادَ الفَتْرَةُ، ويُؤَيِّدُهُ إثْباتُ الجارِّ في قَوْلِهِ: ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ [أيْ بِالفِعْلِ] شاهَدُوهُ أوْ شاهَدَهُ آباؤُهم. وإمّا بِالمَعْنى والقُوَّةِ فَقَدْ كانَ فِيهِمْ دِينُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى أنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ لِحَيٍّ، وكُلُّهم كانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ وأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمْ يَعْبُدْ صَنَمًا ولا اسْتَقْسَمَ بِالأزْلامِ، وذَلِكَ كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] أيْ شَرِيعَتِهِ ودِينِهِ، والنَّذِيرُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِمَن باشَرَ - نَبَّهَ عَلى ذَلِكَ أبُو حَيّانَ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ما أتاهم مَن يُنْذِرُهم عَلى خُصُوصِ ما غَيَّرُوا مِن دِينِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأمّا إسْماعِيلُ ابْنُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَكانَ بَشِيرًا لا نَذِيرًا، لِأنَّهم ما خالَفُوهُ، وأحْسَنُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ ما نَقَلَهُ البَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ومُقاتِلٍ أنَّ ذَلِكَ (p-٢٢٩)فِي الفَتْرَةِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ ﷺ، فَإنَّهُ قَدْ نَقَلَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أرْسَلَ رُسُلَهُ إلى الآفاقِ أرْسَلَ إلى العَرَبِ رَسُولًا. ولَمّا ذَكَرَ عِلَّةَ الإنْزالِ، أتْبَعَها عِلَّةَ الإنْذارِ فَقالَ: ﴿لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ أيْ لِيَكُونَ حالُهم في مَجارِي العاداتِ حالَ مَن تُرْجى هِدايَتُهُ إلى كَمالِ الشَّرِيعَةِ، وأمّا التَّوْحِيدُ فَلا عُذْرَ لِأحَدٍ فِيهِ بِما أقامَهُ اللَّهُ مِن حُجَّةِ العَقْلِ مَعَ ما أبْقَتْهُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ آدَمُ فَمَن بَعْدَهُ مِن واضِحِ النَّقْلِ بِآثارِ دَعَواتِهِمْ وبَقايا دَلالاتِهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمَن سَألَهُ عَنْ أبِيهِ: «أبِي وأبُوكَ في النّارِ» وقالَ: «لا تَفْتَخِرُوا بِآبائِكُمُ الَّذِينَ مَضَوْا في الجاهِلِيَّةِ فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَما تَدَحْرَجَ الجُعْلُ خَيْرٌ مِنهُمْ» في غَيْرِ هَذا مِنَ الأخْبارِ القاضِيَةِ بِأنَّ كُلَّ مَن ماتَ قَبْلَ دَعْوَتِهِ عَلى الشِّرْكِ فَهو لِلنّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب