الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضَتْ هَذِهِ الجُمَلُ، رافِعَةً أعْناقَها عَلى المُشْتَرِي وزُحَلَ، قابِلَةً لِمَن يُرِيدُ عَمَلَها مَعَ الكَسَلِ، والضَّجَرِ في الفِكْرِ والمَلَلِ، وأيْنَ الثُّرَيّا مِن يَدِ المُتَناوِلِ، وكانَ قَدْ أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى في أوَّلِ السُّورَةِ أنَّ الآياتِ المَسْمُوعَةَ هُدًى لِقَوْمٍ وضَلالٌ لِآخَرِينَ، وكانَ مِنَ الغَرائِبِ أنَّ شَيْئًا واحِدًا يُؤَثِّرُ شَيْئَيْنِ مُتَضادَّيْنِ، وأتْبَعَ ذَلِكَ ما دَلَّ عَلى أنَّهُ مِن بالِغِ الحِكْمَةِ بِوُجُوهٍ مُرْضِيَةٍ مُشْرِقَةٍ مُضِيئَةٍ، لَكِنَّها بِمَسالِكَ دَقِيقَةٍ وإشاراتٍ خَفِيَّةٍ، إلى أنْ خَتَمَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّكَبُّرِ، ورَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ الحاجَةِ، إشارَةً إلى أنَّ فاعِلَ ما لا حاجَةَ إلَيْهِ غَيْرُ حَكِيمٍ، وكانَ التَّكَبُّرُ عَلى النّاسِ والتَّعالِي عَلَيْهِمْ مِن آثارِ الفَضْلِ في النِّعْمَةِ، وكانَتِ العادَةُ جارِيَةً بِأنَّ المُلْكَ يَخْضَعُ لَهُ تارَةً لِمُجَرَّدِ عَظَمَتِهِ، وتارَةً خَوْفًا مِن سَطْوَتِهِ، وتارَةً رَجاءً لِنِعْمَتِهِ، أبْرَزَ سُبْحانَهُ وتَعالى غَيْبَ ما وصَفَ بِهِ الآياتِ المَسْمُوعَةَ مِن تَأْثِيرِ الضِّدَّيْنِ في حالَةٍ واحِدَةٍ في شاهِدِ الآياتِ المَرْئِيَّةِ عَلى وجْهٍ يَدُلُّ عَلى اسْتِحْقاقِهِ، لِما أمَرَ بِهِ لُقْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ العِبادَةِ والتَّذَلُّلِ، وأنَّ إلَيْهِ المَرْجِعَ، وهو عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وأنَّ كُلَّ ما تَرى خَلَقَهُ مُذَكِّرًا بِأنَّ النِّعْمَةَ إنَّما هي مِنهُ، فَلا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَفْخَرَ بِما آتاهُ غَيْرُهُ، ولَوْ وُكِلَ فِيهِ إلى نَفْسِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلى شَيْءٍ مِنهُ، مُحَذِّرًا مَن سَلْبِها (p-١٨٤)عَنِ المُتَكَبِّرِ وإعْطائِها لِلذَّلِيلِ المُحْتَقَرِ، فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَوْا﴾ أيِ تَعْلَمُوا عِلْمًا هو في ظُهُورِهِ كالمُشاهَدَةِ أيُّها المُشْتَرُونَ لَهْوَ الحَدِيثِ، المُتَكَبِّرُونَ عَلَيَّ المُقْبِلِينَ عَلى اللَّهِ، المُتَخَلِّينَ عَنِ الدُّنْيا، الَّذِينَ قُلْنا لَهم رَدًّا عَنِ الشِّرْكِ وإبْعادًا عَنِ الهَوى والإفْكِ ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: ١١] ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الحائِزِ لِكُلِّ كَمالٍ ﴿سَخَّرَ لَكُمْ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿ما في السَّماواتِ﴾ بِالإنارَةِ والإظْلامِ، والحَرِّ والبَرْدِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإنْعامِ، وأكَّدَهُ بِإعادَةِ المَوْصُولِ والجارِّ، لِأنَّ المَقامَ حَقِيقٌ بِهِ فَقالَ: ﴿وما في الأرْضِ﴾ بِكُلِّ ما يُصْلِحُكم فَتَعْلَمُوا أنَّ الكُلَّ خَلْقُهُ، ما لِأحَدٍ مِمَّنْ دُونَهُ فِيهِ شَيْءٌ، وأنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا، فَهو قادِرٌ عَلى تَعْسِيرِهِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ويُحْضِرُهُ لَكم وإنْ كانَ في أخْفى الأماكِنِ ﴿وأسْبَغَ﴾ أيْ أطالَ وأوْسَعَ وأتَمَّ وأفْضَلَ عَنْ قَدْرِ الحاجَةِ وأكْمَلَ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيُّها المُكَلَّفُونَ ﴿نِعَمَهُ﴾ [أيْ] (p-١٨٥)واحِدَةٌ تَلِيقُ بِالدُّنْيا، في قِراءَةِ الجَماعَةِ بِإسْكانِ العَيْنِ و[تاءِ] تَأْنِيثٍ مَنصُوبَةٍ مُنَوَّنَةٍ تَنْوِينَ تَعْظِيمٍ، مُشِيرًا إلى أنَّها ذاتُ أنْواعٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ قِراءَةُ المَدَنِيِّينَ وأبِي عَمْرٍو وحَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ بِجَعْلِ تاءِ التَّأْنِيثِ ضَمِيرًا لَهُ سُبْحانَهُ مَعَ فَتْحِ العَيْنِ لِيَكُونَ جَمْعًا ﴿ظاهِرَةً﴾ وهي ما تُشاهِدُونَها مُتَذَكِّرِينَ لَها ﴿وباطِنَةً﴾ وهي ما غابَتْ عَنْكم فَلا يُحِسُّونَها، أوْ تُحِسُّونَها وهي خَفِيَّةٌ عَنْكُمْ، لا تَذْكُرُونَها إلّا بِالتَّذْكِيرِ، وكُلٌّ مِنكم يَعْرِفُ ذَلِكَ عَلى الإجْمالِ، فاعْبُدُوهُ لِما دَعَتْ إلَيْهِ مَجَلَّةُ لُقْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِتَكُونُوا مِنَ المُحْسِنِينَ، حَذَرًا مِن سَلْبِ نِعَمِهِ، وإيجابِ نِقَمِهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ دَلِيلًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [لقمان: ١٠] ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ومَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنكم أيُّها الخَلْقُ يَعْرِفُ أنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنهُ سُبْحانَهُ تَعالى وحْدَهُ فَمِنَ النّاسِ مَن أذْعَنَ وأنابَ وسَلَّمَ لِكُلِّ ما دَعا إلَيْهِ كِتابُهُ الحَكِيمُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ فَكانَ مِنَ الحُكَماءِ المُحْسِنِينَ فاهْتَدى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ مُظْهِرًا مَوْضِعَ [ضَمِيرِ] المُخاطَبِينَ مِمّا يُشِيرُ إلَيْهِ النَّوْسُ: ﴿ومِنَ النّاسِ﴾ أيِ الَّذِينَ هم أهْلٌ لِلِاضْطِرابِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ﴿ألَمْ تَرَوْا﴾ ويَكُونَ (p-١٨٦)﴿ألَمْ تَرَوْا﴾ دَلِيلًا عَلى أوَّلِ السُّورَةِ، أيْ أُشِيرَ إلى الآياتِ حالَ كَوْنِها هُدًى لِمَن ذَكَرَ والحالُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي اللَّهْوَ، ألَمْ تَرَوْا دَلِيلًا عَلى [أنَّ] مِنَ النّاسِ المُعانِدَ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم جَمِيعَ العالَمِ وأنْعَمَ عَلَيْكم بِما أنْعَمَ والحالُ أنَّ مِنَ النّاسِ ﴿مَن يُجادِلُ﴾ فَلا لَهْوَ أعْظَمُ مِن جِدالِهِ، ولا كِبْرَ مِثْلُ كِبْرِهِ، ولا ضَلالَ مِثْلُ ضَلالِهِ، وأظْهَرَ لِزِيادَةِ التَّشْنِيعِ عَلى هَذا المُجادِلِ، وإشارَةً إلى قُبْحِ المُجادَلَةِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى النِّعَمِ فَقالَ تَعالى: ﴿فِي اللَّهِ﴾ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقُدْرَةً. ولَمّا كانَ سُبْحانَهُ في ظُهُورِ وجُودِهِ وأوْصافِهِ بِحَيْثُ لا يَخْفى بِوَجْهٍ، وكانَ المُجادِلُ قَدْ يَكُونُ فَهِمًا، قالَ: ﴿بِغَيْرِ﴾ أيْ بِكَلامٍ مُتَّصِفٍ بِأنَّهُ غَيْرُ ﴿عِلْمٍ﴾ أيْ بَلْ بِألْفاظٍ هي في رَكاكَةِ مَعانِيها لِعَدَمِ اسْتِنادِها إلى حِسٍّ ولا عَقْلٍ مُلْحَقَةٌ بِأصْواتِ الحَيَواناتِ العُجْمِ، فَكانَ بِذَلِكَ حِمارًا تابِعًا لِلْهَوى. ولَمّا كانَ المَعْنى قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ القاصِرِينَ، لِوُرُودِهِ عَلى لِسانِ مَن لا يُعْتَبَرُ، فَإذا أُضِيفَ إلى كَبِيرٍ تُؤُمِّلَ ولَمْ يُبادِرْ إلى رَدِّهِ لِاسْتِعْظامِهِ، فَظَهَرَ عَلى طُولِ حِسِّهِ، قالَ مُعَبِّرًا بِأداةِ النَّفْيِ الحَقِيقَةِ بِهِ، لِأنَّ المَوْضِعَ لَها، وعَدَلَ عَنْها أوَّلًا لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ المَذْمُومَ إنَّما هو المُجادِلُ إذا كانَ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالعِلْمِ (p-١٨٧)[وإنْ كانَ جِدالُهُ مُتَّصِفًا بِالعِلْمِ]: ﴿ولا هُدًى﴾ أيْ وارِدٍ عَمَّنْ عُهِدَ مِنهُ سَدادُ الأقْوالِ والأفْعالِ بِما أبْدى مِنَ المُعْجِزاتِ والآياتِ البَيِّناتِ، فَوَجَبَ أخْذُ أقْوالِهِ مُسَلَّمَةً وإنْ لَمْ يَظْهَرْ مَعْناها. ولَمّا كانَ القَوْلُ قَدْ يَكُونُ مَقْبُولًا لِاسْتِنادِهِ إلى اللَّهِ تَعالى وإنْ لَمْ يَكُنْ أصْلًا مَعْقُولًا، قالَ: ﴿ولا كِتابٍ﴾ أيْ مِنَ اللَّهِ؛ ووَصْفُهُ بِما هو لازِمُهُ لا يَنْفَكُّ عَنْهُ فَقالَ: ﴿مُنِيرٍ﴾ أيْ بَيِّنٍ غايَةَ البَيانِ، مُبَيِّنٌ لِغَيْرِهِ عَلى عادَةِ بَيانِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، أوْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالوَصْفِ الإعْجازُ لِإظْهارِهِ قَطْعًا أنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَإنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كِتابِ اللَّهِ كَذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب