الباحث القرآني

(p-١٤٠)سُورَةُ لُقْمانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَقْصُودُها إثْباتُ الحِكْمَةِ لِلْكِتابِ اللّازِمِ مِنهُ حِكْمَةُ مُنْزِلِهِ سُبْحانَهُ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ، وقِصَّةُ لُقْمانَ المُسَمّى بِهِ السُّورَةُ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى ذَلِكَ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا أكْمَلَ ما أرادَ مِن أوَّلِ القُرْآنِ إلى آخِرِ بَراءَةٍ الَّتِي هي سُورَةُ غَزْوِ الرُّومِ، وكانَ سُبْحانَهُ قَدِ ابْتَدَأ القُرْآنَ [ بَعْدَ أُمِّ القُرْآنِ ] بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْ هَذا الكِتابِ، وأنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، واسْتَدَلَّ عَلى ذَلِكَ فِيما تَبِعَها مِنَ السُّورِ، ثُمَّ ابْتَدَأ سُورَةَ يُونُسَ بَعْدَ سُورَةِ غَزْوِ الرُّومِ بِإثْباتِ حِكْمَتِهِ، وأتْبَعَ ذَلِكَ دَلِيلَهُ إلى أنْ خَتَمَ سُورَةَ الرُّومِ، ابْتَدَأ دَوْرًا جَدِيدًا عَلى وجْهٍ أضْخَمَ مِنَ الأوَّلِ، فَوَصَفَهُ في أوَّلِ هَذِهِ التّالِيَةِ لِلرُّومِ بِما وصَفَهُ بِهِ في يُونُسَ التّالِيَةِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وذَلِكَ الوَصْفُ هو الحِكْمَةُ،وزادَ أنَّهُ هُدًى وهِدايَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، فَهَؤُلاءِ أصْحابُ النِّهاياتِ، والمُتَّقُونَ أصْحابُ البِداياتِ. ولَمّا أثْبَتَ في آلِ عِمْرانَ أنَّهُ أُنْزِلَ بِالحَقِّ، أثْبَتَ في السَّجْدَةِ تَنْزِيلَهُ ونَفى الرَّيْبَ عَنْ أنَّهُ مِن عِنْدِهِ، وأثْبَتَ أنَّهُ الحَقُّ، واسْتَمَرَّ فِيما بَعْدَ هَذا مِنَ السُّورِ مُناظِرًا في الأغْلَبِ لِما مَضى كَما يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالإمْعانِ في التَّذَكُّرِ والتَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ: ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا (p-١٤١)”الرَّحْمَن“ الَّذِي بَثَّ بِعُمُومِ حِكْمَتِهِ شامِلَ نِعْمَتِهِ في سائِرِ بَرِيَّتِهِ ”الرَّحِيم“ الَّذِي أنارَ لِخاصَّتِهِ طَرِيقَ جَنَّتِهِ، فَدامُوا وهامُوا في مَحَبَّتِهِ. لَمّا خُتِمَتِ الرُّومُ بِالحَثِّ عَلى العِلْمِ، وهو ما تَضَمَّنَهُ هَذا الكِتابُ العَظِيمُ، والأمْرُ بِالصَّبْرِ والتَّمَسُّكِ بِما فِيهِ مِن وعْدٍ، والنَّهْيُ عَنِ الإطْماعِ لِأهْلِ الِاسْتِخْفافِ في المُقارَبَةِ لَهم في شَيْءٍ مِنَ الأوْصافِ، وكانَ ذَلِكَ هو الحِكْمَةَ، قالَ أوَّلَ هَذِهِ: ﴿الم﴾ مُشِيرًا بِها إلى أنَّ اللَّهَ المَلِكَ الأعْلى القَيُّومَ أرْسَلَ - لِأنَّهُ الظّاهِرُ مَعَ أنَّهُ الباطِنُ - جِبْرائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِوَحْيٍ ناطِقٍ مِنَ الحِكَمِ والأحْكامِ بِما لَمْ يَنْطِقْ بِهِ مِن قَبْلِهِ إمامٌ، ولا يَلْحَقُهُ في ذَلِكَ شَيْءٌ مَدى الأيّامِ، فَهو المَبْدَأُ وهو الخِتامُ، وإلى ذَلِكَ أوْمَأ تَعْبِيرُهُ بِأداةِ البُعْدِ في قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ﴾ أيِ الآياتُ الَّتِي هي مِنَ العُلُوِّ والعَظَمَةِ بِمَكانٍ لا يَنالُهُ إلّا مِن جاهَدَ نَفْسَهُ حَتّى هَذَّبَها بِالتَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الرَّذائِلِ، والتَّحَلِّي بِسائِرِ الفَضائِلِ ﴿آياتُ الكِتابِ﴾ الجامِعِ لِجَمِيعِ أنْواعِ الخَيْرِ ﴿الحَكِيمِ﴾ بِوَضْعِ الأشْياءِ في حَواقِّ مَراتِبِها فَلا يُسْتَطاعُ نَقْضُ شَيْءٍ مِن إبْرامِهِ، ولا مُعارَضَةُ شَيْءٍ مِن كَلامِهِ، الدّالُّ ذَلِكَ عَلى تَمامِ عِلْمِ مُنْزِلِهِ وخِبْرَتِهِ، وشُمُولِ عَظَمَتِهِ وقُدْرَتِهِ، ودَقِيقِ صَنائِعِهِ (p-١٤٢)فِي بَدِيعِ حِكْمَتِهِ، فَلا بُدَّ مِن نَصْرِ المُؤْمِنِينَ ومَن داناهم في التَّمَسُّكِ بِكِتابٍ لَهُ أصْلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا تَكَرَّرَ الأمْرُ بِالِاعْتِبارِ والحَضِّ عَلَيْهِ والتَّنْبِيهِ بِعَجائِبِ المَخْلُوقاتِ في سُورَةِ الرُّومِ كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلا بِالحَقِّ﴾ [الروم: ٨] وقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ [الروم: ٩] وقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: ١١] وقَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ [الروم: ١٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٨] وهي عَشْرُ آياتٍ تَحَمَّلَتْ مِن جَلِيلِ الِاعْتِبارِ والتَّنْبِيهِ ما لا يَبْقى مَعَهُ شُبْهَةٌ ولا تَوَقُّفٌ لِمَن وُفِّقَ إلى ما بَعْدَ هَذا مِن آياتِ التَّنْبِيهِ وبَسْطِ الدَّلائِلِ وذِكْرِ ما فُطِرَ عَلَيْهِ العِبادُ وضَرْبِ الأمْثالِ المُوَضِّحَةِ [سَواءَ] السَّبِيلِ لِمَن عَقَلَ مَعانِيَها وتَدَبَّرَ حِكَمَها إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الروم: ٥٨] وهي إشارَةٌ إلى ما أوْدَعَ اللَّهُ كِتابَهُ المُبِينَ مِن مُخْتَلِفِ الأمْثالِ وشَتّى العِظاتِ وما تَحَمَّلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِن ذَلِكَ، أتْبَعَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الحَقِّ: ﴿الم﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ أيْ دَلائِلُهُ وبَراهِينُهُ لِمَن وُفِّقَ وسَبَقَتْ لَهُ الحُسْنى وهُمُ المُحْسِنُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهم بَعْدُ، [و] وصْفُ الكِتابِ بِالحَكِيمِ يَشْهَدُ لِما مَهَّدْناهُ، ثُمَّ أشارَ سُبْحانَهُ إلى مَن حُرِمَ مَنفَعَتَهُ والِاعْتِبارَ بِهِ، واسْتَبْدَلَ الضَّلالَةَ بِالهُدى، وتَنْكَبَّ عَنْ سَنَنِ (p-١٤٣)فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها فَقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ [لقمان: ٦] - الآياتُ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ [بِما يُبَكِّتُ] كُلَّ مُعانِدٍ، ويَقْطَعُ بِكُلِّ جاحِدٍ، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ مُشاهَدَةٍ لا يُمَكْنُ في أمْرِها امْتِراءٌ، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الأرْضِ وما أوْدَعَ فِيها، ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: ١١] ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَن هَداهُ سَبِيلَ الفِطْرَةِ فَلَمْ تَزُغْ بِهِ الشُّبَهُ ولا تَنَكَّبَ سَواءَ السَّبِيلِ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ﴾ [لقمان: ١٢] - الآيَةُ، لِتَأْسِيسِ مَنِ اتَّبَعَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها في سُورَةِ الرُّومِ، ثُمَّ تَناسَقَ الكَلامُ وتَناسَجَ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب