الباحث القرآني

ولَمّا كانَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أمْرًا بِأضْدادِهِ، وكانَ الأمْرُ بِإطْلاقِ الوَجْهِ يَلْزَمُ مِنهُ الإنْصافُ في الكَلامِ، وكانَ الإنْصافُ في الكَلامِ والمَشْيُ لا عَلى طَرِيقِ المَرَحِ والفَخْرِ رُبَّما دَعا إلى الِاسْتِماتَةِ في المَشْيِ والحَدِيثِ أوِ الإسْراعِ في المَشْيِ والسِّرِّ والجَهْرِ بِالصَّوْتِ فَوْقَ الحَدِّ، قالَ مُحْتَرِسًا في الأمْرِ بِالخُلُقِ الكَرِيمِ عَمّا يُقارِبُ الحالَ الذَّمِيمَ: ﴿واقْصِدْ﴾ أيِ اعْدِلْ وتَوَسَّطْ ﴿فِي مَشْيِكَ﴾ لا إفْراطَ ولا تَفْرِيطَ مُجانِبًا لِوَثْبِ الشُّطّارِ ودَبِيبِ المُتَماوِتِينَ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ خَبَبِ اليَهُودِ ودَبِيبِ النَّصارى، والقَصْدُ في الأفْعالِ كالقِسْطِ في الأوْزانِ - قالَ الرّازِي في اللَّوامِعِ، وهو المَشْيُ الهَوْنُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَصَنُّعٌ لِلْخَلْقِ لا بِتَواضُعٍ ولا بِتَكَبُّرِ ﴿واغْضُضْ﴾ أيِ انْقُصْ، ولِأجْلِ ما (p-١٧٩)ذَكَرَ قالَ: ﴿مِن صَوْتِكَ﴾ بِإثْباتِ ”مِن“ أيْ لِئَلّا يَكُونَ صَوْتُكَ مُنْكَرًا، وتَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ الحاجَةِ حِمارًا، وأمّا مَعَ الحاجَةِ كالأذانِ فَهو مَأْمُورٌ بِهِ. ولَمّا كانَ رَفْعُ الصَّوْتِ فَوْقَ العادَةِ مُنْكَرًا كَما كانَ خَفْضُهُ دُونَها تَماوُتًا أوْ دَلالًا وتَكَبُّرًا، وكانَ قَدْ أشارَ إلى النَّهْيِ عَنْ هَذا بِـ ”مِن“ فَأفْهَمُ أنَّ الطَّرَفَيْنِ مَذْمُومانِ، عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ الأوَّلِ دالًّا بِصِيغَةِ ”أفْعَلَ“ عَلى اشْتِراكِ الرَّفْعِ كُلِّهِ في النَّكارَةِ ذاكِرًا أعْلاها تَصْوِيرًا لَهُ بِأقْبَحِ صُورَةٍ تَنْفِيرًا عَنْهُ فَقالَ: ﴿إنَّ أنْكَرَ﴾ أيْ أفْظَعَ وأبْشَعَ وأوْحَشَ ﴿الأصْواتِ﴾ [أيْ كُلِّها] المُشْتَرِكَةِ في النَّكارَةِ بِرَفْعِها فَوْقَ الحاجَةِ، وأخْلى الكَلامَ عَنْ لَفْظِ التَّشْبِيهِ فَأخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ تَصْوِيرًا لِصَوْتِ الرّافِعِ صَوْتَهُ فَوْقَ الحاجَةِ بِصُورَةِ النِّهاقِ وجَعَلَ المُصَوِّتَ كَذَلِكَ حِمارًا، مُبالَغَةً في التَّهْجِينِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ مِن كَراهَةِ اللَّهِ لَهُ بِمَكانٍ [فَقالَ]: ﴿لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ أيْ هَذا الجِنْسُ، لِما لَهُ مِنَ الغُلُوِّ (p-١٨٠)المُفْرِطِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ، وأوَّلُهُ زَفِيرٌ وآخِرُهُ شَهِيقٌ، وهُما فِعْلُ أهْلِ النّارِ، وأفْرَدَهُ لِيَكُونَ نَصًّا عَلى إرادَةِ الجِنْسِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ الِاجْتِماعَ شَرْطٌ في ذَلِكَ ولِذِكْرِ الحِمارِ مَعَ ذَلِكَ مِن بَلاغَةِ الذَّمِّ والشَّتْمِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِ ولِذَلِكَ يُسْتَهْجَنُ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ، وهَذا يُفْهِمُ أنَّ الرَّفْعَ مَعَ الحاجَةِ غَيْرُ مَذْمُومٍ فَإنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ ولا مُسْتَبْشَعٍ، ولَقَدْ دَعَتْ هَذِهِ الآياتُ إلى مَعالِي الأخْلاقِ، وهي أُمَّهاتُ الفَضائِلِ الثَّلاثِ: الحِكْمَةِ والعِفَّةِ والشَّجاعَةِ، وأمَرَتْ بِالعَدْلِ فِيها، وهي وظِيفَةُ التَّقْسِيطِ الَّذِي هو الوَسَطُ الَّذِي هو مَجْمَعُ الفَضائِلِ، ونَهَتْ عَنْ مَساوِئِ الأخْلاقِ، وهي الأطْرافُ الَّتِي هي مَبْدَأُ الرَّذائِلِ الحاصِلُ بِالإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، فَإقامَةُ الصَّلاةِ الَّتِي هي رُوحُ العِبادَةِ المَبْنِيَّةِ عَلى العِلْمِ هي سِرُّ الحِكْمَةِ والنَّهْيِ، أمَرَ بِالشَّجاعَةِ ونَهى عَنِ الجُبْنِ، وفي النَّهْيِ عَنِ التَّصْعِيرِ وما مَعَهُ نَهْيٌ عَنِ التَّهَوُّرِ، والقَصْدُ في المَشْيِ و[الغَضُّ فِي] الصَّوْتِ أمْرٌ بِالعِفَّةِ ونَهْيٌ عَنِ الِاسْتِماتَةِ والجُمُودِ والخَلاعَةِ والفُجُورِ، وفي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِماتَةِ نَهْيٌ عَمّا قَدْ يَلْزَمُها مِنَ الجَرِيزَةِ، وهي الفِكْرُ بِالمَكْرِ المُؤَدِّي إلى اللَّعْنَةِ، وعَنِ الِانْحِطاطِ إلى البَلَهِ والغَفْلَةِ، والكافِلُ بِشَرْحِ هَذا ما قالَهُ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتازانِيُّ في الكَلامِ عَلى الإجْماعِ مِن تَلْوِيحِهِ، قالَ: إنَّ الخالِقَ تَعالى وتَقَدَّسَ قَدْ رَكَّبَ في الإنْسانِ ثَلاثَ قُوى: إحْداها (p-١٨١)مَبْدَأُ إدْراكِ الحَقائِقِ، والشَّوْقُ إلى النَّظَرِ في العَواقِبِ، والتَّمْيِيزُ بَيْنَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ، ويُعَبِّرُ عَنْها بِالقُوَّةِ النُّطْقِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ والنَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ المَلَكِيَّةِ، والثّانِيَةُ مَبْدَأُ جَذْبِ المَنافِعِ وطَلَبُ المَلاذِّ مِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وتُسَمّى القُوَّةَ الشَّهَوِيَّةَ والبَهِيمِيَّةَ والنَّفْسَ الأمّارَةَ، والثّالِثَةُ مَبْدَأُ الإقْدامِ عَلى الأهْوالِ والشَّوْقِ إلى التَّسَلُّطِ والتَّرَفُّعِ، وهي القُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ والسَّبُعِيَّةُ والنَّفْسُ اللَّوّامَةُ، ويَحْدُثُ مِنِ اعْتِدالِ الحَرَكَةِ الأُولى الحِكْمَةُ، والثّانِيَةِ العِفَّةُ، والثّالِثَةِ الشَّجاعَةُ، فَأُمَّهاتُ الفَضائِلِ هي هَذِهِ الثَّلاثُ، وما سِوى ذَلِكَ إنَّما هو مِن تَفْرِيعاتِها وتَرْكِيباتِها، وكُلٌّ مِنها مُحْتَوِشٌ بَطِرٌ في إفْراطٍ وتَفْرِيطٍ هُما رَذِيلَتانِ، أمّا الحِكْمَةُ فَهي مَعْرِفَةُ الحَقائِقِ عَلى ما هي [عَلَيْهِ] بِقَدْرِ الِاسْتِطاعَةِ، وهي العِلْمُ النّافِعُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَعْرِفَةٍ النَّفْسِ ما لَها وما عَلَيْها المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] وإفْراطُها الجَرْبَزَةُ، وهي اسْتِعْمالُ الفِكْرِ فِيما لا يَنْبَغِي كالمُتَشابِهاتِ، وعَلى وجْهٍ لا يَنْبَغِي، كَمُخالِفَةِ الشَّرائِعِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ قُلْتُ: وهي بِجِيمٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ زايٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الجَرَبْزِ - بِالضَّمِّ، وهو الخَبُّ، أيِ الخِداعُ الخَبِيثُ. (p-١٨٢)واللَّهُ أعْلَمُ، وتَفْرِيطُها الغَباوَةُ الَّتِي هي تَعْطِيلُ القُوَّةِ الفِكْرِيَّةِ بِالإرادَةِ والوُقُوفِ عَنِ اكْتِسابِ العُلُومِ النّافِعَةِ، وأمّا الشَّجاعَةُ فَهي انْقِيادُ السَّبُعِيَّةِ لِلنّاطِقَةِ لِيَكُونَ إقْدامُها عَلى حَسَبِ الرَّوِيَّةِ مِن غَيْرِ اضْطِرابٍ في الأُمُورِ الماثِلَةِ، حَتّى يَكُونَ فِعْلُها جَمِيلًا، وصَبْرُها مَحْمُودًا، وإفْراطُها التَّهَوُّرَ، أيِ الإقْدامُ عَلى ما لا يَنْبَغِي، وتَفْرِيطُها الجُبْنُ، أيِ الحَذَرُ عَمّا لا يَنْبَغِي، وأمّا العِفَّةُ فَهي [انْقِيادُ] البَهِيمَةِ لِلنّاطِقَةِ، لِتَكُونَ تَصَرُّفاتُها بِحَسَبِ اقْتِضاءِ النّاطِقَةِ، لِتَسْلَمَ عَنِ اسْتِعْبادِ الهَوى إيّاها، واسْتِخْدامِ اللَّذّاتِ، وإفْراطِها الخَلاعَةُ والفُجُورُ، أيِ الوُقُوعُ في ازْدِيادِ اللَّذّاتِ عَلى ما يَجِبُ، وتَفْرِيطُها الجُمُودُ، أيِ السُّكُوتُ عَنْ طَلَبِ الذّاتِ بِقَدْرِ ما رَخَّصَ فِيهِ العَقْلُ والشَّرْعُ إيثارًا لا خِلْقَةً، فالأوْساطُ فَضائِلُ، والأطْرافُ رَذائِلُ، وإذا امْتَزَجَتِ الفَضائِلُ الثَّلاثُ حَصَلَتْ مِنِ اجْتِماعِها حالَةٌ مُتَشابِهَةٌ هي العَدالَةُ، فَبِهَذا الِاعْتِبارِ عَبَّرَ عَنِ العَدالَةِ بِالوَساطَةِ، أيْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] وإلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «خَيْرُ الأُمُورِ أوْساطُها» والحِكْمَةُ في النَّفْسِ البَهِيمِيَّةِ بَقاءُ البَدَنِ الَّذِي هو مُرَكَّبُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ لِيَصِلَ إلى كَمالِها اللّائِقِ بِها، ومَقْصِدُها المُتَوَجِّهُ إلَيْهِ، وفي السَّبُعِيَّةِ كَسْرُ البَهِيمِيَّةِ وقَهْرُها ودَفْعُ الفَسادِ المُتَوَقَّعِ مِنِ اسْتِيلائِها، واشْتَرَطَ التَّوَسُّطَ في أفْعالِها لِئَلّا تَسْتَعْبِدَ النّاطِقَةُ هَواهُما وتَصْرِفاها (p-١٨٣)عَنْ كَمالِها ومَقْصِدِها. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب