الباحث القرآني

ولَمّا كانَ مِن آفاتِ العِبادَةِ لا سِيَّما الأمْرُ والنَّهْيُ - لِتَصَوُّرِهِما بِصُورَةِ الِاسْتِعْلاءِ - الإعْجابُ إلى الكِبْرِ، قالَ مُحَذِّرًا مِن ذَلِكَ مُعَبِّرًا عَنِ الكِبْرِ بِلازِمِهِ، لِأنَّ النَّفْيَ الأعَمَّ نَفْيٌ لِلْأخَصِّ، مُنَبِّهًا عَلى أنَّ المَطْلُوبَ في الأمْرِ والنَّهْيِ اللِّينُ لا الفَظاظَةُ والغِلْظَةُ الحامِلانِ عَلى النُّفُورِ: ﴿ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ﴾ أيْ لا تُمِلْهُ مُتَعَمِّدًا إمالَتَهُ بِإمالَةِ العُنُقِ مُتَكَلِّفًا لَها صَرْفًا عَنِ الحالَةِ القاصِدَةِ، وأصْلُ الصُّعْرِ داءُ يُصِيبُ البَعِيرَ يَلْوِي مِنهُ عُنُقَهُ، وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: تُصاعِرْ، والمُرادُ بِالمُفاعَلَةِ والتَّفْعِيلِ تَعَمُّدُ فِعْلِ ذَلِكَ لِأجْلِ الكِبْرِ حَتّى يَصِيرَ خُلُقًا، والمُرادُ النَّهْيُ عَمّا يَفْعَلُهُ المُصَعِّرُ مِنَ الكِبْرِ - واللَّهُ أعْلَمُ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِغَرَضٍ مِنَ الأغْراضِ الَّتِي لا تُذَمُّ، أشارَ إلى المَقْصُودِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلنّاسِ﴾ بِلامِ العِلَّةِ، أيْ لا تَفْعَلْ ذَلِكَ (p-١٧٧)لِأجْلِ الإمالَةِ عَنْهُمْ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا تَهاوُنًا بِهِمْ مِنَ الكِبْرِ، بَلْ أقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِكَ كُلِّهِ مُسْتَبْشِرًا مُنْبَسِطًا مِن غَيْرِ كِبْرٍ ولا عُلُوٍّ، وأتْبَعَ ذَلِكَ ما يَلْزَمُهُ فَقالَ: ﴿ولا تَمْشِ﴾ ولَمّا كانَ في أُسْلُوبِ التَّواضُعِ وذَمِّ الكِبْرِ، ذَكَّرَهُ بِأنَّ أصْلَهُ تُرابٌ، وهو لا يَقْدِرُ أنْ يَعْدُوَهُ فَقالَ: ﴿فِي الأرْضِ﴾ وأوْقَعَ المَصْدَرَ مَوْقِعَ الحالِ أوِ العِلَّةِ فَقالَ: ﴿مَرَحًا﴾ أيِ اخْتِيالًا وتَبَخْتُرًا، أيْ لا تَكُنْ مِنكَ هَذِهِ الحَقِيقَةُ لِأنَّ ذَلِكَ مَشْيُ أشَرٍ وبَطَرٍ وتَكَبُّرٍ، فَهو جَدِيرٌ بِأنْ يَظْلِمَ صاحِبُهُ ويُفْحِشَ ويَبْغِيَ، بَلِ امْشِ هَوْنًا فَإنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِكَ إلى التَّواضُعِ، فَتَصِلُ إلى كُلِّ خَيْرٍ، فَتَرْفُقُ بِكَ الأرْضُ إذا صِرْتَ فِيها حَقِيقَةً بِالكَوْنِ في بَطْنِها. ولَمّا كانَتْ غايَةُ ذَلِكَ الرِّياءَ لِلنّاسِ والفَخْرَ عَلَيْهِمُ المُثْمِرَ لَبُغْضَتِهِمُ النّاشِئَةِ عَنْ بُغْضَةِ اللَّهِ تَعالى، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَظُنُّ أنْ إسْباغَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لا يَنْبَغِي الكِبْرُ إلّا لَهُ لِما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ المُطْلَقَةِ. ولَمّا كانَ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَلْزَمُهُ حُبُّ النّاسِ مَحْبُوبًا لِلنُّفُوسِ، وكانَ فَواتُ المَحْبُوبِ أشُقَّ عَلى النُّفُوسِ مِن وُقُوعِ المَحْذُورِ، وكانَتْ ”لا“ لا تَدْخُلُ إلّا عَلى المُضارِعِ المُسْتَقْبَلِ قالَ: ﴿لا يُحِبُّ﴾ أيْ فِيما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، ولَوْ قالَ ”يُبْغِضُ“ لِاحْتِمالِ التَّقْيِيدِ بِالحالِ، ولَمّا كانَ النَّشْرُ المُشَوِّشُ أفْصَحَ لِقُرْبِ الرُّجُوعِ (p-١٧٨)تَدَلِّيًا فِيما تَرَقّى فِيهِ المُقْبِلُ قالَ: ﴿كُلَّ مُخْتالٍ﴾ أيْ مُراءٍ لِلنّاسِ في مَشْيِهِ تَبَخْتُرًا يَرى لَهُ فَضْلًا عَلى النّاسِ فَيَشْمَخُ بِأنْفِهِ، وذَلِكَ فِعْلُ المَرِحِ ﴿فَخُورٍ﴾ يُعَدِّدُ مَناقِبَهُ، وذَلِكَ فِعْلُ المُصَعِّرِ، لِأنَّ ذَلِكَ مِنَ الكِبْرِ الَّذِي تَرَدّى بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَمَن نازَعَهُ إيّاهُ قَصَمَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب