الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وصَّيْتَهُ بِهِما وأكَّدَ حَقَّهُما، أتْبَعَهُ الدَّلِيلَ عَلى ما ذَكَرَ لُقْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قَباحَةِ الشِّرْكِ فَقالَ: ﴿وإنْ جاهَداكَ﴾ أيْ مَعَ ما أمَرْتُكَ بِهِ مِن طاعَتِهِما، وأشارَ بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ إلى مُخالَفَتِهِما وإنْ بالَغا في الحَمْلِ عَلى ذَلِكَ ﴿عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي﴾ وأشارَ بِأداةِ (p-١٦٧)الِاسْتِعْلاءِ إلى أنَّهُ لا مَطْمَعَ لِمَن أطاعَهُما في ذَلِكَ ولَوْ بِاللَّفْظِ فَقَطْ أنْ يَكُونَ في عِدادِ المُحْسِنِينَ وإنْ كانَ الوالِدانِ في غايَةِ العُلُوِّ والتَّمَكُّنِ مِنَ الأسْبابِ الفاتِنَةِ لَهُ بِخِلافِ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ فَإنَّها لِمُطْلَقِ الفِتْنَةِ، ولَيْسَتْ لِقُوَّةِ الكُفّارِ، فَعَبَّرَ [فِيها] بِلامِ العِلَّةِ، إشارَةً إلى مُطْلَقِ الجِهادِ الصّادِقِ بِقَوِيِّهِ وضَعِيفِهِ، فَفي المَوْضِعَيْنِ نَوْعُ رَمْزٍ إلى أنَّهُ إنْ ضَعُفَ [عَنْهُما] أطاعَ بِاللِّسانِ، ولَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنِ الإيمانِ، كَما أخْرَجَهُ [هُنا] عَنِ الوَصْفِ بِالإحْسانِ، ولِذَلِكَ حَذَّرَ في الآيَةِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ مِنَ النِّفاقِ لِأجْلِ الفِتْنَةِ، وأحالَ سُبْحانَهُ عَلى اتِّباعِ الأدِلَّةِ عَلى حُكْمِ ما وهَبَ مِنَ العَقْلِ عَدْلًا وإنْصافًا فَقالَ: ﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَدُلَّ عِلْمٌ مِن أنْواعِ العُلُومِ عَلى شَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الدَّلالاتِ بَلِ العُلُومُ كُلُّها دالَّةٌ عَلى الوَحْدانِيَّةِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي تَطابَقَتْ عَلَيْهِ العُقُولُ، وتَظافَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ النُّقُولُ، وأمّا الوَجْهُ الَّذِي سَمّاهُ أهْلُ الإلْحادِ بِمَذْهَبِ الِاتِّحادِ تَوْحِيدًا فَقَدْ كَفى في أنَّهُ لَيْسَ بِهِ عِلْمُ إطْباقِهِمْ عَلى أنَّهُ خارِجٌ عَنْ طَوْرِ العَقْلِ، مُخالِفٌ لِكُلِّ ما ورَدَ عَنِ الأنْبِياءِ مِن نَقْلٍ، وإنْ لَبَّسُوا بِادِّعاءِ مُتابَعَةِ بَعْضِ الآياتِ كَما بَيَّنَهُ كِتابِي الفارِضِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَتَمَذْهَبَ بِهِ أحَدٌ إلّا بَعْدَ الِانْسِلاخِ مِنَ (p-١٦٨)العَقْلِ والتَّكْذِيبِ بِالنَّقْلِ، فَلَمْ يُنادِ أحَدٌ عَلى نَفْسِهِ بِالإبْطالِ ما نادَوْا بِهِ [عَلى] أنْفُسِهِمْ ولَكِنْ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ.
فَلَما قَرَّرَ ذَلِكَ عَلى هَذا المِنوالِ البَدِيعِ، قالَ مُسَبِّبًا عَنْهُ: ﴿فَلا تُطِعْهُما﴾ أيْ في ذَلِكَ ولَوِ اجْتَمَعا عَلى المُجاهَدَةِ لَكَ عَلَيْهِ، بَلْ خالِفْهُما، وإنْ أدّى الأمْرُ إلى السَّيْفِ فَجاهِدْهُما بِهِ، لِأنَّ أمْرَهُما بِذَلِكَ مُنافٍ لِلْحِكْمَةِ حامِلٌ عَلى مَحْضِ الجَوْرِ والسَّفَهِ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ عَلى مَحْضِ الغَلَطِ في التَّقْلِيدِ لِآبائِهِمْ في ذَلِكَ.
ولَمّا كانَ هَذا قَدْ يُفْهِمُ الإعْراضَ عَنْهُما رَأْسًا في كُلِّ أمْرٍ إذا خالَفا في الدِّينِ، أشارَ إلى أنَّهُ لَيْسَ مُطْلَقًا فَقالَ: ﴿وصاحِبْهُما في الدُّنْيا﴾ أيْ في أُمُورِها الَّتِي لا تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ ما دامَتْ حَياتُهُما.
ولَمّا كانَ المَبْنِيُّ عَلى النُّقْصانِ عاجِزًا عَنِ الوَفاءِ بِجَمِيعِ الحُقُوقِ، خَفَّفَ عَلَيْهِ بِالتَّنْكِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿مَعْرُوفًا﴾ أيْ بِبِرِّهِما إنْ كانا عَلى دِينٍ يُقَرّانِ عَلَيْهِ ومُعامَلَتِهِما بِالحِلْمِ والِاحْتِمالِ وما يَقْتَضِيهِ مَكارِمُ الأخْلاقِ ومَعالِي الشِّيَمِ، قالَ ابْنُ مَيْلَقٍ: ويَلُوحُ مِن هَذِهِ المِشْكاةِ تَعْظِيمُ الأشْياخِ الَّذِينَ كانُوا في العادَةِ سَبَبًا لِإيجادِ القُلُوبِ في دَوائِرِ التَّوْحِيدِ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ - (p-١٦٩)يَعْنِي فَفي سَوْقِ هَذِهِ الوَصِيَّةِ هَذا المَساقَ أعْظَمُ تَنْبِيهٍ عَلى أنَّ تَعْظِيمَ الوَسائِطِ مِنَ الخَلْقِ لَيْسَ مانِعًا مِنَ الإخْلاصِ في التَّوْحِيدِ، قالَ ابْنُ مَيْلَقٍ: ومِن هُنا زَلَّتْ أقْدامُ أقْوامٍ تَعَمَّقُوا في دَعْوى التَّوْحِيدِ حَتّى أعْرَضُوا عَنْ جانِبِ الوَسائِطِ فَوَقَعُوا في الكُفْرِ مِن حَيْثُ زَعَمُوا التَّوْحِيدَ فَإنَّ تَعْظِيمَ المُعَظَّمِ في الشَّرْعِ تَعْظِيمٌ لِحُرُماتِ اللَّهِ، وامْتِثالٌ لِأمْرِ اللَّهِ، ولَعَمْرِي إنَّ هَذِهِ المَزَلَّةَ لِيَتَعَثَّرُ بِها أتْباعُ إبْلِيسَ حَيْثُ أبى أنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ ما مَعْناهُ: وهَؤُلاءِ قَوْمٌ أعْرَضُوا عَنْ تَعْظِيمِ الوَسائِطِ زاعِمِينَ الغَيْرَةَ عَلى مَقامِ التَّوْحِيدِ، وقابَلَهم قَوْمٌ أسْقَطُوا الوَسائِطَ جُمْلَةً وقالُوا: إنَّهُ لَيْسَ في الكَوْنِ إلّا هُوَ، وهم أهْلُ الوَحْدَةِ المُطْلَقَةِ، والكُلُّ عَلى ضَلالٍ، والحَقُّ الِاقْتِصادُ والعَدْلُ في إثْباتِ الخالِقِ وتَوْحِيدِهِ، وتَعْظِيمِ مَن أمَرَ بِتَعْظِيمِهِ مِن عَبِيدِهِ.
ولَمّا كانَ ذَلِكَ قَدْ يَجُرُّ إلى نَوْعِ وهَنٍ في الدِّينِ بِبَعْضِ مُحاباةٍ، نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّبِعْ﴾ أيْ بالِغْ في أنَّ تَتَّبِعَ ﴿سَبِيلَ﴾ أيْ دِينَ وطَرِيقَ ﴿مَن أنابَ﴾ أيْ أقْبَلَ خاضِعًا ﴿إلَيَّ﴾ لَمْ يَلْتَفِتْ إلى عِبادَةِ غَيْرِي، وهُمُ المُخْلِصُونَ مِن أبَوَيْكَ وغَيْرِهِما، فَإنَّ ذَلِكَ لا يُخْرِجُكَ عَنْ بَرِّهِما ولا عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ والإخْلاصِ لَهُ، وفي هَذا حَثٌّ عَلى مَعْرِفَةِ الرِّجالِ بِالحَقِّ، وأمْرٌ بِحَكِّ المَشايِخِ وغَيْرِهِمْ عَلى مَحَكِّ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فَمَن (p-١٧٠)كانَ عَمَلُهُ مُوافِقًا لَهُما اتُّبِعَ، ومَن كانَ عَمَلُهُ مُخالِفًا لَهُما اجْتُنِبَ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّ مَرْجِعَ أُمُورِكم كُلِّها في الدُّنْيا إلَيَّ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ إلَيَّ﴾ أيْ في الآخِرَةِ، لا إلى غَيْرِي مَرْجِعُكَ - هَكَذا كانَ الأصْلُ، ولَكِنَّهُ جَمَعَ لِإرادَةِ التَّعْمِيمِ فَقالَ مُعَبِّرًا بِالمَصْدَرِ المِيمِيِّ الدّالِّ عَلى الحَدَثِ وزَمانِهِ ومَكانِهِ: ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ حِسًّا ومَعْنًى، فَأكْشِفُ الحِجابَ ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أيْ أفْعَلُ فِعْلَ مَن يُبالِغُ في التَّنْقِيبِ والإخْبارِ عَقِبَ ذَلِكَ وبِسَبَبِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ أنْسَبُ شَيْءٍ لِلْحِكْمَةِ وإنْ كانَ تَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبٍ ما يَلِيقُ بِهِ ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ بِما هو لَكم كالجِبِلَّةِ ﴿تَعْمَلُونَ﴾ أيْ تُجَدِّدُونَ عَمَلَهُ مِن صَغِيرٍ وكَبِيرٍ، وجَلِيلٍ وحَقِيرٍ، وما كانَ في جِبِلّاتِكم مِمّا لَمْ يَبْرُزْ إلى الخارِجِ، فَأُجازِي مَن أُرِيدُ وأغْفِرُ لِمَن أُرِيدُ، فَأعِدَّ لِذَلِكَ عُدَّتَهُ، ولا تَعْمَلْ عَمَلَ مَن لَيْسَ لَهُ مَرْجِعٌ يُحاسَبُ فِيهِ ويُجازى عَلى مَثاقِيلِ الذَّرِّ مِن أعْمالِهِ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ الحِسابِ بِالتَّنْبِئَةِ لِأنَّ العِلْمَ بِالعَمَلِ سَبَبٌ لِلْمُجازاةِ عَلَيْهِ أوْ لِأنَّهُ جَمَعَ القِسْمَيْنِ، ومُحاسِبَةُ السَّعِيدِ العَرْضُ فَقَطْ بِدَلالَةِ التَّضَمُّنِ، ومُحاسَبَةُ الشَّقِيِّ بِالمُطابَقِيَّةِ.
{"ayah":"وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











