الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى ما أوْصى بِهِ ولَدَهُ مِن شُكْرِ المُنْعِمِ الأوَّلِ الَّذِي لَمْ يَشْرَكْهُ في إيجادِهِ أحَدٌ، وذَكَرَ ما عَلَيْهِ الشِّرْكُ مِنَ الفَظاعَةِ والشَّناعَةِ والبَشاعَةِ، أتْبَعَهُ سُبْحانَهُ وصَّيْتَهُ لِلْوَلَدِ بِالوالِدِ لِكَوْنِهِ المُنْعِمَ الثّانِيَ المُتَفَرِّدَ سُبْحانَهُ بِكَوْنِهِ [جَعَلَهُ] سَبَبَ وُجُودِ الوَلَدِ اعْتِرافًا بِالحَقِّ (p-١٦٣)وإنَّ صَغُرَ لِأهْلِهِ وإيذانًا بِأنَّهُ لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَن لا يَشْكُرُ النّاسَ، وتَفْخِيمًا لِحَقِّ الوالِدَيْنِ، لِكَوْنِهِ قَرَنَ عُقُوقَهُما بِالشِّرْكِ، وإعْلامًا بِأنَّ الوَفاءَ شَيْءٌ واحِدٌ مَتى نَقَصَ شَيْءٌ مِنهُ تَداعى سائِرُهُ كَما في الفِرْدَوْسِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لَوْ أنَّ العَبْدَ لَقِيَ اللَّهَ بِكَمالِ ما افْتَرَضَ عَلَيْهِ ما خَلا بِرَّ الوالِدَيْنِ ما دَخَلَ الجَنَّةَ، وإنَّ بِرَّ الوالِدَيْنِ لِنِظامِ التَّوْحِيدِ والصَّلاةِ والذِّكْرِ» ولِذَلِكَ لَفَتَ الكَلامَ إلى مَظْهَرِ العَظَمَةِ تَرْهِيبًا مِنَ العُقُوقِ ورَفْعًا لِما لَعَلَّهُ يَتَوَهَّمُ مِن أنَّ الِانْفِصالَ عَنِ الشِّرْكِ لا يَكُونُ إلّا بِالإعْراضِ عَنْ جَمِيعِ الخَلْقِ.
ولِما قَدْ يُخَيِّلُهُ الشَّيْطانُ مِن أنَّ التَّقَيُّدَ بِطاعَةِ الوالِدِ شِرْكٌ، مُضَمِّنًا تِلْكَ الوَصِيَّةَ إجادَةَ لُقْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ في تَحْسِينِ الشُّكْرِ وتَقْبِيحِ الشِّرْكِ لِمُوافَقَتِهِ لِأمْرِ رَبِّ العالَمِينَ، وإيجابِ امْتِثالِ ابْنِهِ لِأمْرِهِ، فَقالَ مُبَيِّنًا حَقَّهُ وحَقَّ كُلِّ والِدٍ غَيْرِهِ، ومُعَرِّفًا قَباحَةَ مَن أمَرَ ابْنَهُ بِالشِّرْكِ لِكَوْنِهِ مُنافِيًا لِلْحِكْمَةِ الَّتِي أبانَها لُقْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَحْرِيمَ امْتِثالِ الِابْنِ لِذَلِكَ ووُجُوبَ مُخالَفَتِهِ لِأبِيهِ فِيهِ تَقْدِيمًا لِأعْظَمِ الحَقَّيْنِ، وارْتِكابًا لِأخَفِّ الضَّرَرَيْنِ: ﴿ووَصَّيْنا﴾ أيْ قالَ لُقْمانُ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ نُصْحًا لَهُ والحالُ (p-١٦٤)أنّا بِعَظَمَتِنا وصَّيْنا ولَدَهُ بِهِ بِنَحْوِ ما أوْصاهُ بِهِ في حَقِّنا - هَكَذا كانَ الأصْلُ - ولَكِنَّهُ عَبَّرَ بِما يَشْمَلُ غَيْرَهُ فَقالَ: ﴿الإنْسانَ﴾ أيْ هَذا النَّوْعَ عَلى لِسانِ أوَّلِ نَبِيٍّ أرْسَلْنا وهَلُمَّ جَرًّا وبِما رَكَّزْناهُ في كُلِّ فِطْرَةٍ مِن أنَّهُ ما جَزاءُ الإحْسانِ إلّا الإحْسانُ ﴿بِوالِدَيْهِ﴾ فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ لُقْمانَ عَرَّفَ نِعْمَتَنا عَلَيْهِ وعَلى أبْناءِ نَوْعِهِ لِوَصِيَّتِنا لِأوْلادِهِمْ بِهِمْ فَشَكَرَنا ولَقَّنَ عَنّا نَهْيَهم بِذَلِكَ عَنِ الشِّرْكِ لِأنَّهُ كُفْرانٌ لِنِعْمَةِ المُنْعِمِ، فانْتَهى في نَفْسِهِ ونَهى ولَدَهُ، فَكانَ بِذَلِكَ حَكِيمًا.
ولَمّا كانَتِ الأُمُّ في مَقامِ الِاحْتِقارِ لِما لِلْأبِ مِنَ العَظَمَةِ بِالقُوَّةِ والعَقْلِ والكَدِّ عَلَيْها وعَلى ولَدِها، نَوَّهَ بِها ونَبَّهَ عَلى ما يَخْتَصُّ بِهِ مِن أسْبابِ وُجُودِ الوَلَدِ وبَقائِهِ عَنِ الأبِ مِمّا حَصَلَ لَها مِنَ المَشَقَّةِ بِسَبَبِهِ وما لَها إلَيْهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ. فَقالَ مُعَلِّلًا أوْ مُسْتَأْنِفًا: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا﴾ أيْ حالَ كَوْنِها ذاتَ وهْنٍ تَحْمِلُهُ في أحْشائِها، وبالَغَ بِجَعْلِها نَفْسَ الفِعْلِ دَلالَةً عَلى شِدَّةِ ذَلِكَ الضَّعْفِ بِتَضاعُفِهِ كُلَّما أثْقَلَتْ ﴿عَلى وهْنٍ﴾ أيْ هو قائِمٌ بِها مِن نَفْسِ خَلْقِها وتَرْكِيبِها إلى ما يَزِيدُها التَّمادِي بِالحَمْلِ، ثُمَّ أشارَ إلى ما لَها عَلَيْهِ مِنَ المِنَّةِ بِالشَّفَقَةِ وحُسْنِ الكَفالَةِ وهو لا يَمْلِكُ (p-١٦٥)لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ: ﴿وفِصالُهُ﴾ أيْ فِطامُهُ مِنَ الرَّضاعَةِ بَعْدَ وضْعِهِ.
ولَمّا كانَ الوالِدانِ يُعِدّانِ وِجْدانَ الوَلَدِ مِن أعْظَمِ أسْبابِ الخَيْرِ والسُّرُورِ، عَبَّرَ في أمْرِهِ بِالعامِ الَّذِي تَدُورُ مادَّتُهُ عَلى السَّعَةِ لِذَلِكَ وتَرْجِيَةً لَهُما بِالعَوْلِ عَلَيْهِ وتَعْظِيمًا لِحَقِّهِما بِالتَّعْبِيرِ بِما يُشِيرُ إلى صُعُوبَةِ ما قاسَيا فِيهِ بِاتِّساعِ زَمَنِهِ فَقالَ: ﴿فِي عامَيْنِ﴾ تُقاسِي فِيهِما في مَنامِهِ وقِيامِهِ ما لا يَعْلَمُهُ حَقَّ عِلْمِهِ إلّا اللَّهُ تَعالى، وفي التَّعْبِيرِ بِالعامِ أيْضًا إشارَةٌ إلى تَعْظِيمِ مُنْتَهاهُ بِكَوْنِها تَعُدُّ أيّامَ رَضاعِهِ - مَعَ كَوْنِها أضْعَفَ ما يَكُونُ في تَرْبِيَتِهِ - أيّامَ سَعَةٍ وسُرُورٍ، والتَّعْبِيرُ بِـ ”فِي“ مُشِيرًا إلى أنَّ الوالِدَيْنِ لَهُما أنْ يَفْطِماهُ قَبْلَ تَمامِهِما عَلى حَسَبِ ما يَحْتَمِلُهُ حالُهُ، وتَدْعُو إلَيْهِ المَصْلَحَةُ مِن أمْرِهِ.
ولَمّا ذَكَرَ الوَصِيَّةَ وأشارَ إلى أُمَّهاتِ أسْبابِها، ذَكَرَ المُوصى بِهِ فَقالَ مُفَسِّرًا لِـ ”وصَّيْنا“: ﴿أنِ اشْكُرْ﴾ ولَمّا كانَ الشُّكْرُ مَنظُورًا إلَيْهِ أتَمَّ نَظَرٍ، قَصُرَ فِعْلُهُ، أيْ أوْجِدْ هَذِهِ الحَقِيقَةَ ولْتَكُنْ مِن هَمِّكَ. ولَمّا كانَ لا بُدَّ لَهُ مِن مُتَعَلِّقٍ، كانَ كَأنَّهُ قالَ: لِمَن؟ فَقالَ مُقَدِّمًا ما هو أساسُ المُوصى بِهِ في الوالِدَيْنِ لِيَكُونَ مُعْتَدًّا بِهِ، لافِتًا القَوْلَ إلى ضَمِيرِ الواحِدِ مِن غَيْرِ تَعْظِيمٍ (p-١٦٦)تَنْصِيصًا عَلى المُرادِ: ﴿لِي﴾ أيْ لِأنِّي المُنْعِمُ بِالحَقِيقَةِ ﴿ولِوالِدَيْكَ﴾ لِكَوْنِي جَعَلَتْهُما سَبَبًا لِوُجُودِكَ والإحْسانِ بِتَرْبِيَتِكَ، وذَكَّرَ الإنْسانَ بِهَذا الذِّكْرِ في سُورَةِ الحِكْمَةِ إشارَةً إلى أنَّهُ أتَمُّ المَوْجُوداتِ حِكْمَةً قالَ الرّازِي في آخِرِ سُورَةِ الأحْزابِ مِن لَوامِعِهِ: المَوْجُوداتُ كُلُّها كالشَّجَرَةِ، والإنْسانُ ثَمَرَتُها، وهي كالقُشُورِ والإنْسانُ لُبابُها، وكالمَبادِئِ والإنْسانُ كَمالُها، ومِن أيْنَ لِلْعالَمِ ما لِلْإنْسانِ؟ بَلِ العالَمُ العُلْوِيُّ فِيهِ، لَيْسَ في العالَمِ العُلْوِيِّ ما فِيهِ، فَقَدْ جَمَعَ ما بَيْنَ العالَمَيْنِ بِنَفْسِهِ وجَسَدِهِ، واسْتَجْمَعَ الكَوْنَيْنِ بِعَقْلِهِ وحِسِّهِ، وارْتَفَعَ عَنِ الدَّرَجَتَيْنِ بِاتِّصالِ الأمْرِ الأعْلى بِهِ وحْيًا قَوْلِيًّا، وسَلَّمَ لِمَن لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَسْلِيمًا اخْتِيارِيًّا طَوْعِيًّا. ثُمَّ عَلَّلَ الأمْرَ بِالشُّكْرِ مُحَذِّرًا فَقالَ: ﴿إلَيَّ﴾ لا إلى غَيْرِي ﴿المَصِيرُ﴾ أيْ فَأسْألُكَ عَنْ ذَلِكَ كَما كانَتْ مِنهُما البَداءَةُ ظاهِرًا بِما جَعَلْتُ لَهُما مِنَ التَّسَبُّبِ في ذَلِكَ، فَيَسْألانِكَ عَنِ القِيامِ بِحُقُوقِهِما وإنْ قَصَّرْتَ فِيها شَكَواكَ إلى النّاسِ وأقاما عَلَيْكَ الحُجَّةَ وأخَذا بِحَقِّهِما.
{"ayah":"وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنࣲ وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِی وَلِوَ ٰلِدَیۡكَ إِلَیَّ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











