الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحانَهُ وأنَّهُ أبْعَدَهم عَنْها بِما قَضى عَلَيْهِمْ مِنَ الجَهْلِ وغَباوَةِ العَقْلِ وآتاها مَن تابَ، واعْتَصَمَ بِآياتِ الكِتابِ، تَوَقَّعَ السّامِعُ الإخْبارَ عَنْ بَعْضِ مَن آتاهُ الحِكْمَةَ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كانُوا مِنَ المُحْسِنِينَ، فَوَضَعُوا الأشْياءَ في مَواضِعِها بِأنْ آمَنُوا عَلى قَوْلِهِ: ”وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ“ أوْ عَلى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: لِأنّا أضْلَلْناهم بِحِكْمَتِنا وآتَيْنا الحِكْمَةَ الَّذِينَ قَبِلُوا آياتِنا وأحْسَنُوا التَّعَبُّدَ لَنا فَما عَبَدُوا صَنَمًا ولا مالُوا إلى لَهْوٍ، لِأنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الحِكْمَةِ لِكَوْنِهِ [وضْعًا] لِلشَّيْءِ في مَحَلِّهِ، فَهو (p-١٥٦)تَقْدِيرٌ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ ﷺ. بِالرِّسالَةِ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا﴾ بِما لَنا مِنَ العَظْمَةِ والحِكْمَةِ ﴿لُقْمانَ﴾ وهو عَبْدٌ مِن عَبِيدِنا ﴿الحِكْمَةَ﴾ وهو العِلْمُ المُؤَيَّدُ بِالعَمَلِ، والعَمَلُ المُحْكَمُ بِالعِلْمِ، وقالَ الحَرالِيُّ!: هي العِلْمُ بِالأمْرِ الَّذِي لِأجْلِهِ وجَبَ الحُكْمُ، والحُكْمُ الحَمْلُ عَلى جَمِيعِ أنْواعِ الصَّبْرِ والمُصابَرَةِ ظاهِرًا بِالإيالَةِ العالِيَةِ، ولا يَتِمُّ الحُكْمُ وتَسْتَوِي الحِكْمَةُ إلّا بِحَسَبِ سَعَةِ العِلْمِ، وقالَ ابْنُ مَيْلَقٍ: إنَّ مَدارَها عَلى إصابَةِ الحَقِّ والصَّوابِ في القَوْلِ [والعَمَلِ]، ولِهَذا قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لا يُقالُ لِشَخْصٍ حَكِيمًا حَتّى تَجْتَمِعَ لَهُ الحِكْمَةُ في القَوْلِ والفِعْلِ، قالَ: ولا يُسَمّى المُتَكَلِّمُ بِالحِكْمَةِ حَكِيمًا حَتّى يَكُونَ عامِلًا بِها. انْتَهى. ومِن بَلِيغِ حِكْمَتِهِ ما أسْنَدَهُ صاحِبُ الفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «حَقًّا أقُولُ! لَمْ يَكُنْ لُقْمانُ نَبِيًّا، ولَكِنْ كانَ عَبْدًا ضَمْضامَةً كَثِيرَ التَّفَكُّرِ حَسَنَ اليَقِينِ، أحَبَّ اللَّهَ فَأحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالحِكْمَةِ، كانَ نائِمًا نِصْفَ النَّهارِ إذْ جاءَهُ نِداءٌ، قِيلَ: يا لُقْمانُ، هَلْ لَكَ أنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ خَلِيفَةً في الأرْضِ تَحْكُمُ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ، فَأجابَ: إنْ خَيَّرَنِي رَبِّي قَبِلْتُ العافِيَةَ ولَمْ أقْبَلِ البَلاءَ، وإنْ عَزَمَ عَلَيَّ فَسَمْعًا وطاعَةً، فَإنِّي أعْلَمُ أنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَبِّي عَصَمَنِي وأعانَنِي، فَقالَتِ المَلائِكَةُ بِصَوْتٍ لا يَراهُمْ: (p-١٥٧)لِمَ يا لُقْمانُ؟ قالَ: لِأنَّ الحاكِمَ بِأشَدِّ المَنازِلِ وأكْدَرِها، يَغْشاهُ الظُّلْمُ مِن كُلِّ مَكانٍ، إذْ يَعْدِلُ فَبِالحَرِيِّ أنْ يَنْجُوَ، وإنْ أخْطَأ أخْطَأ طَرِيقَ الجَنَّةِ، ومَن يَكُنْ في الدُّنْيا ذَلِيلًا خَيْرٌ مِن أنْ يَكُونَ شَرِيفًا، ومَن تَخَيَّرَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ تَفْتِنْهُ الدُّنْيا ولا يُصِيبُ الآخِرَةَ، فَعَجِبَتِ المَلائِكَةُ مِن حُسْنِ مَنطِقِهِ، فَنامَ نَوْمَةً فَأُعْطِيَ الحِكْمَةَ فانْتَبَهَ يَتَكَلَّمُ بِها» وفي الفِرْدَوْسِ عَنْ مَكارِمِ الأخْلاقِ لِأبِي بَكْرِ بْنِ هِلالٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ [قالَ]: «الحِكْمَةُ عَشَرَةُ أجْزاءٍ تِسْعَةٌ مِنها في العُزْلَةِ وواحِدٌ في الصَّمْتِ»، [وقالَ لُقْمانُ]: لا مالَ كَصِحَّةٍ ولا نَعِيمَ كَطِيبِ نَفْسٍ، وقالَ: ضَرْبُ الوالِدِ لِوَلَدِهِ كالسَّماءِ لِلزَّرْعِ، وقِيلَ لَهُ: أيُّ النّاسِ شَرٌّ؟ قالَ: الَّذِي لا يُبالِي أنْ يَراهُ النّاسُ مُسِيئًا، وقِيلَ لَهُ: ما أقْبَحَ وجْهَكَ! فَقالَ: تَعِيبُ النَّقْشَ أوِ النَّقّاشَ، وقالَ البَغَوِيُّ: إنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ؟ قالَ: بِصِدْقِ الحَدِيثِ وأداءِ الأمانَةِ وتَرْكِ ما لا يَعْنِينِي. انْتَهى. فَهو سُبْحانُهُ مِن حِكْمَتِهِ وحِكَمِهِ أنْ يَرْفَعَ ما يَشاءُ بِما يَعْلَمُهُ مِنهُ مِن سَلامَةِ الطَّبْعِ وإنْ كانَ عَبْدًا فَلا بِدْعَ أنْ يَخْتَصَّ (p-١٥٨)مُحَمَّدًا ﷺ ذا النَّسَبِ العالِي والمَنصِبِ المُنِيفِ في كُلِّ خَلْقٍ شَرِيفٍ بِالرِّسالَةِ مِن بَيْنِ قُرَيْشٍ وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ الدُّنْيا المُتَعَظِّمِينَ بِها، قالَ ابْنُ مَيْلَقٍ: مِن حِكْمَتِهِ سُبْحانَهُ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أثْرَيْ عَدْلِهِ وفَضْلِهِ، وأنْ يُعاقِبَ بَيْنَهُما في الظُّهُورِ فَيُذِلَّ ويُعِزَّ ويُفْقِرَ ويُغْنِيَ ويُسْقِمَ ويَشْفِيَ ويُفْنِيَ ويُبْقِيَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَما مِن سابِقِ عَدْلٍ إلّا لَهُ لاحِقُ فَضْلٍ، ولا سابِقِ فَضْلٍ إلّا لَهُ لاحِقُ عَدْلٍ، غَيْرَ أنَّ أثَرَ العَدْلِ والفَضْلِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالبَواطِنِ خاصَّةً، وقَدْ يَتَعَلَّقُ أحَدُهُما بِالظّاهِرِ والآخِرُ بِالباطِنِ، وقَدْ يَكُونُ اخْتِلافُ تَعَلُّقِهِما في حالَةٍ واحِدَةٍ، وقَدْ يَكُونُ عَلى البَدَلِ، وعَلى قَدْرِ تَعَلُّقِ الأثَرِ [السّابِقِ يَكُونُ تَعَلُّقُ الأثَرِ] اللّاحِقِ. ولَمّا كانَتِ الحِكْمَةُ قاضِيَةً بِذَلِكَ، أجْرى اللَّهُ سُبْحانَهُ آثارَ عَدْلِهِ عَلى ظَواهِرِ أصْفِيائِهِ دُونَ بَواطِنِهِمْ، ثُمَّ عَقَّبَتْ ذَلِكَ بِإيرادِ آثارِ فَضْلِهِ عَلى بَواطِنِهِمْ وظَواهِرِهِمْ حَتّى صارَ مِن قاعِدَةِ الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ تَفْوِيضُ مَمالِكِ الأرْضِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِيها كالنَّجاشِيِّ حَيْثُ بِيعَ في صِغَرِهِ، وذَلِكَ كَثِيرٌ مَوْجُودٌ بِالِاسْتِقْراءِ، فَمِن كَمالِ تَرْبِيَةِ الحَكِيمِ لِمَن يُرِيدُ إعْلاءَ شَأْنِهِ أنْ يَجْرِيَ عَلى ظاهِرِهِ مِن أثَرِ العَدْلِ ما فِيهِ تَكْمِيلٌ لَهم وتَنْوِيرٌ لِمَدارِكِهِمْ وتَطْهِيرٌ لِوُجُودِهِمْ وتَهْذِيبٌ وتَأْدِيبٌ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن فَوائِدِ التَّرْبِيَةِ، ومَن تَتَبُّعِ أحْوالِ الأكابِرِ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهَلُمَّ جَرًّا رَأى مِن حُسْنِ (p-١٥٩)بَلاءِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لَهم ما يَشْهَدُ لِما قَرَّرَتْهُ بِالصِّحَّةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. انْتَهى. ولَمّا كانَتِ الحِكْمَةُ هي الإقْبالُ عَلى اللَّهِ قالَ: ﴿أنِ اشْكُرْ﴾ وهو وإنْ كانَ تَقْدِيرُهُ: قُلْنا لَهُ كَذا، يُؤَوَّلُ إلى ”آتَيْناهُ الشُّكْرَ“ وصُرِفَ الكَلامُ إلى الِاسْمِ الأعْظَمِ الَّذِي لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ سُبْحانَهُ دَفْعًا لِلتَّعَنُّتِ، ونَقْلًا عَنْ مَظْهَرِ العَظَمَةِ [إلى] أعْظَمَ مِنها فَقالَ: ﴿لِلَّهِ﴾ بِأنْ وفَّقْناهُ لَهُ بِما سَبَّبْناهُ لَهُ مِنَ الأمْرِ بِهِ لِأنَّ الحِكْمَةَ في الحَقِيقَةِ هي القِيامُ بِالشُّكْرِ لا الإيصاءُ بِهِ، ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ ”أنْ“ مَصْدَرِيَّةً، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: آتَيْناهُ إيّاها بِسَبَبِ الشُّكْرِ، وعَبَّرَ بِفِعْلِ الأمْرِ إعْلامًا بِأنَّ شُكْرَهُ كانَ لِامْتِثالِ الأمْرِ لِيَكُونَ أعْلى. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَبادَرَ وشَكَرَ، فَما نَفَعَ إلّا نَفْسَهُ، كَما أنَّهُ لَوْ كَفَرَ ما ضَرَّ إلّا نَفْسَهُ، عَطَفَ عَلَيْهِ [مُعَرِّفًا] أنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشّاكِرِينَ قَوْلَهُ مُعَبِّرًا بِالمُضارِعِ الدّالِّ عَلى أنَّ مَن أقْبَلَ عَلَيْهِ - في أيِّ زَمانٍ كانَ - يَلْقاهُ ويَكُونُ مَعْرُوفُهُ لَهُ دائِمًا بِدَوامِ العَمَلِ: ﴿ومَن يَشْكُرْ﴾ أيْ يُجَدِّدِ الشُّكْرَ ويَتَعاهَدْ بِهِ نَفْسَهُ كائِنًا مَن كانَ ﴿فَإنَّما يَشْكُرُ﴾ أيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ﴿لِنَفْسِهِ﴾ أيْ فَإنَّما يَنْفَعُ نَفْسَهُ، فَإنَّ اللَّهَ يَزِيدُهُ مِن فَضْلِهِ فَإنَّ اللَّهَ (p-١٦٠)شَكُورٌ مَجِيدٌ ﴿ومَن كَفَرَ﴾ فَإنَّما يَضُرُّ نَفْسَهُ، وعَبَّرَ بِالماضِي إشارَةً إلى أنَّ مَن وقَعَ مِنهُ كُفْرٌ ولَوْ مَرَّةً جُوزِيَ بِالإعْراضِ عَنْهُ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ عَبَّرَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ لِأنَّهُ في سِياقِ الحِكْمَةِ، والحَكِيمُ مَن أدامَ اسْتِحْضارَ صِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ فَغَلَبَ خَوْفُهُ رَجاءَهُ ما دامَ في دارِ الأكْدارِ ﴿غَنِيٌّ﴾ عَنِ الشُّكْرِ وغَيْرِهِ ﴿حَمِيدٌ﴾ أيْ لَهُ جَمِيعُ المَحامِدِ وإنْ كَفَرَهُ جَمِيعُ الخَلائِقِ، فَإنَّ تَقْدِيرَ الكُفْرِ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُونَ عَلى الِانْفِكاكِ عَنْهُ مِن جُمْلَةِ مَحامِدِهِ بِالقُدْرَةِ والعِزَّةِ والفَهْمِ والعَظَمَةِ. ويَجُوزُ - وهو أقْرَبُ - أنْ يَعُودَ ”غَنِيٌّ“ إلى الكافِرِ و”حَمِيدٌ“ إلى الشّاكِرِ، فَيَكُونُ اسْمَ فاعِلٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: ومَن كَفَرَ فَإنَّما يَكْفُرُ عَلى نَفْسِهِ، ثُمَّ سَبَّبَ عَنِ الجُمْلَتَيْنِ و[هُما] كَوْنُ عَمَلِ كُلٍّ مِنَ الشّاكِرِ والكافِرِ لا يَتَعَدّاهُ قَوْلُهُ ”فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ“ [أيْ] عَنْ شُكْرِ الكافِرِ ”حَمِيدٌ“ لِلشّاكِرِ، والآيَةُ عَلى الأوَّلِ مِنَ الِاحْتِباكِ: تَخْصِيصُ الشُّكْرِ بِالنَّفْسِ أوَّلًا يَدُلُّ عَلى حَذْفِ مِثْلِهِ مِنَ الكُفْرِ ثانِيًا، وإثْباتِ الصِّفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلى حَذْفِ مِثْلِهِما أوَّلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب