الباحث القرآني

ولَمّا كانَ مِنَ المُشاهَدَةِ أنَّ لَهم عُقُولًا راجِحَةً وأفْكارًا صافِيَةً، وأنْظارًا صائِبَةً، فَكانُوا بِصَدَدِ أنْ يَقُولُوا: إنَّ عِلْمَنا أكْبَرُ مِن عِلْمِكُمْ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ بَيانًا لِأنَّهُ يَصِحُّ سَلْبُ ما يَنْفَعُ مِنَ العِلْمِ بِتَأْدِيَتِهِ إلى السَّعادَةِ الباقِيَةِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ العِلْمِ الَّذِي هو الجَهْلُ وبَيْنَ وُجُودِ العِلْمِ الَّذِي لا يَتَجاوَزُ الدُّنْيا: نَعَمْ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ولَكِنْ ﴿ظاهِرًا﴾ أيْ واحِدًا ﴿مِنَ﴾ التَّقَلُّبِ في ﴿الحَياةِ الدُّنْيا﴾ وهو ما أدَّتْهم إلَيْهِ (p-٤٥)حَواسُّهم وتَجارِبُهم إلى ما يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّمَتُّعِ بِزَخارِفِها والتَّنَعُّمِ بِمَلاذِّها، قالَ الحَسَنُ: [إنَّ] أحَدَهم لَيَنْقُرُ الدِّرْهَمَ بِطَرَفِ ظُفْرِهِ فَيَذْكُرُ وزْنَهَ ولا يُخْطِئُ وهو لا يُحْسِنُ يُصَلِّي. انْتَهى. وأمْثالُ هَذا لَهم كَثِيرٌ، وهو وإنْ كانَ عِنْدَ أهْلِ الدُّنْيا عَظِيمًا فَهو عِنْدَ اللَّهِ حَقِيرٌ، فَلِذَلِكَ حَقَّرَهُ لِأنَّهم ما زادُوا فِيهِ عَلى أنْ ساوَوُا البَهائِمَ في إدْراكِها ما يَنْفَعُها فَتَسْتَجْلِبُهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الحِيَلِ، [و] ما يَضُرُّها فَتَدْفَعُهُ بِأنْواعٍ مِنَ الخِداعِ، وأمّا عِلْمُ باطِنِها وهو أنَّها مَجازٌ إلى الآخِرَةِ يَتَزَوَّدُ مِنها بِالطّاعَةِ، فَهو مَمْدُوحٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ بِوَصْفِها بِما يَفْهَمُ الأُخْرى. ولَمّا ذَكَرَ حالَهم في الدُّنْيا، أتْبَعَهُ [ذِكْرَ] اعْتِقادِهِمْ في الآخِرَةِ، مُؤَكِّدًا إشارَةً إلى أنَّ الحالَ يَقْتَضِي إنْكارَ أنْ يَغْفُلَ أحَدٌ عَنْها، لِما لَها مِن واضِحِ الدَّلائِلِ أقْرَبُهُ أنَّ اسْمَ ضِدِّها يَدُلُّ عَلَيْها، لِأنَّهُ لا تَكُونُ إلّا في مُقابَلَةِ قَصِيًّا، ولا أُولى إلّا بِالنِّسْبَةِ إلى أُخْرى، فَقالَ: ﴿وهُمْ﴾ أيْ هَؤُلاءِ المَوْصُوفُونَ خاصَّةً ﴿عَنِ الآخِرَةِ﴾ الَّتِي هي المَقْصُودُ بِالذّاتِ وما خُلِقَتِ الدُّنْيا إلّا لِلتَّوَصُّلِ بِها إلَيْها لِيَظْهَرَ الحُكْمُ بِالقِسْطِ وجَمِيعِ صِفاتِ العِزِّ والكِبْرِ والجَلالِ والإكْرامِ ﴿هم غافِلُونَ﴾ أيْ في غايَةِ الِاسْتِغْراقِ والإضْرابِ عَنْها بِحَيْثُ لا يَخْطُرُ في خَواطِرِهِمْ، فَصارُوا لِاسْتِيلاءِ الغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ إذا ذُكِرَتْ لَهم كَذَّبُوا بِها، واسْتَهْزَؤُوا بِالمُخْبِرِ، ولَمْ يُجَوِّزُوها (p-٤٦)نَوْعَ تَجْوِيزٍ مَعَ أنَّ دَلائِلَها تَفُوتُ الحَصْرَ، وتَزِيدُ عَلى العَدِّ، فَصارُوا كَأنَّهم مَخْصُوصُونَ بِالغَفْلَةِ عَنْها مِن بَيْنِ سائِرِ النّاسِ ومَخَصَّصُونَ لَها بِالغَفْلَةِ مِن بَيْنِ سائِرِ المُمْكِناتِ، فَلِذَلِكَ لا يَصْدُقُونَ الوَعْدَ بِإدالَةِ الرُّومِ لِما رَسَخَ في نُفُوسِهِمْ مِن [أنَّ] الأُمُورَ تَجْرِي بَيْنَ العِبادِ عَلى غَيْرِ قانُونِ الحِكْمَةِ، لِأنَّهم كَثِيرًا ما يَرَوْنَ الظّالِمَ يَمُوتُ ولَمْ يُقْتَصَّ مِنهُ، وهم في غَفْلَةٍ عَنْ [أنَّهُ] أُخِّرَ جَزاؤُهُ إلى يَوْمِ الدِّينِ، يَوْمَ يَكْشِفُ الجَبّارُ حِجابَ الغَفْلَةِ ويُظْهِرُ عَدْلَهُ وفَضْلَهُ، وتُوضَعُ المَوازِينُ القِسْطُ، فَتَطِيشُ بِمَثاقِيلِ الذَّرِّ، ويُقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، ومَن أُرِيدَ القِصاصُ مِنهُ عاجِلًا فَعَلَ، وقَضِيَّةُ الرُّومِ هَذِهِ مِن ذَلِكَ، وهَذا السِّياقُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا حِجابَ عَنِ العِلْمِ أعْظَمُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالآخِرَةِ، ولا شَيْءَ أعْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ بِها والِاهْتِمامِ بِشَأْنِها، لِأنَّ ذَلِكَ حامِلٌ عَلى طَلَبِ الخَلاصِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وهو لا يَكُونُ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ إلّا لِمَن وصَلَ إلى حالَةِ المُراقَبَةِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا لِمَن عَلِمَ إمّا بِالكَشْفِ أوِ الكَسْبِ كُلَّ عِلْمٍ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ حَرَكَةً إلّا بِدَلِيلٍ يُبِيحُها لَهُ ويَحْمِلُهُ عَلَيْها، وبِهَذا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ أنَّ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ بِكَمالِهِما عِلَّةً لِنَفْيِ العِلْمِ عَنْهُمْ، والمَعْنى أنَّ العِلْمَ مَنفِيٌّ عَنْهم لِما (p-٤٧)شَغَلَ قُلُوبَهم مِن هَذا الظّاهِرِ في حالِ غَفْلَتِهِمْ عَنِ الآخِرَةِ، فانْسَدَّ عَلَيْهِمْ بابُ العِلْمِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب