الباحث القرآني

ولَمّا كانَ هَذا مُذَكِّرًا بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ بَعْدَ الإياسِ مِن إيمانِهِمْ، سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فاصْبِرْ﴾ أيْ عَلى إنْذارِهِمْ مَعَ هَذا الجَفاءِ والرَّدِّ بِالباطِلِ (p-١٣٧)والأذى، فَإنَّ الكُلَّ فِعْلُنا لَمْ يَخْرُجْ مِنهُ شَيْءٌ عَنْ إرادَتِنا. ولَمّا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بِأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ أمْرُهُ عَلى كُلِّ أمْرٍ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا لِأنَّ إنْفاذَ مِثْلِ ذَلِكَ في مَحَلِّ الإنْكارِ لِعِظَمِ المُخالِفِينَ وكَثْرَتِهِمْ مُظْهَرًا غَيْرَ مُضْمَرٍ لِئَلّا يَظُنُّ التَّقْيِيدَ بِحَيْثِيَّةِ الطَّبْعِ: ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ في كُلِّ ما وعَدَكَ بِهِ الَّذِي مِنهُ نَصْرُكَ وإظْهارُ دِينِكَ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ونَصْرِ مَن قارَبَ أتْباعَكَ في التَّمَسُّكِ بِكِتابٍ مِن كُتُبِ اللَّهِ وإنْ كانَ قَدْ نُسِخَ عَلى مَن لا كِتابَ لَهُ ﴿حَقٌّ﴾ أيْ ثابِتٌ جِدًّا يُطابِقُهُ الواقِعُ كَما يَكْشِفُ عَنْهُ الزَّمانُ، وتَأْتِي بِهِ مَطايا الحَدَثانِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَلا تَعْجَلْ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ أيْ يَحْمِلَنَّكَ عَلى الخِفَّةِ ويَطْلُبُ أنْ تَخِفَّ بِاسْتِعْجالِ النَّصْرِ خَوْفًا مِن عَواقِبِ تَأْخِيرِهِ أوْ بِتَفْتِيرِكَ عَنِ التَّبْلِيغِ، بَلْ كُنْ بَعِيدًا مِنهم بِالغِلْظَةِ والجَفاءِ والصَّدْعِ بِمُرِّ الحَقِّ مِن غَيْرِ مُحاباةٍ ما، بُعْدًا لا يَطْمَعُونَ مَعَهُ أنْ يَحْتالُوا في خِفَّتِكَ في ذَلِكَ بِنَوْعِ احْتِيالٍ، وقِراءَةُ ”يَسْتَحِقَنَّكَ“ مِنَ الحَقِّ (p-١٣٨)مَعْناها: أيْ لا يَطْلُبُ مِنكَ الحَقَّ الَّذِي هو الفَصْلُ العَدْلُ بَيْنَكَ وبَيْنَهم أيْ لا تَطْلُبُهُ أنْتَ، فَهو مِثْلُ: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا تَنْهى نَفْسَكَ وأنْتَ تُرِيدُ نَهْيَهُ عَنِ الكَوْنِ بِحَيْثُ تَراهُ، والنَّهْيُ في قِراءَةِ الجَماعَةِ بِالثَّقِيلَةِ أشَدُّ مِنهُ في رِوايَةِ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالخَفِيفَةِ، فَقِراءَةُ الجَماعَةِ مُصَوَّبَةٌ إلى أصْلِ الدِّينِ، أيْ لا تَفْعَلْ مَعَهم فِعْلًا يُطْمِعُهم في أنْ تَمِيلَ إلَيْهِمْ فِيهِ، وقِراءَةُ رُوَيْسٍ إلى نَحْوِ الأمْوالِ فَإنَّهُ كانَ يَتَألَّفُهم بِالإيثارِ بِها، ولا شَكَّ أنَّهُ إذا آثَرَهم عَلى أكابِرِ المُسْلِمِينَ أطْمَعَهم ذَلِكَ في أنْ يَطْلُبُوا أنْ يَمِيلَ مَعَهُمْ، وما أفادَ هَذا إلّا تَحْوِيلُ النَّهْيِ، ولَوْ قِيلَ: لا تَخِفَّنَّ مَعَهُمْ، لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ، ولا يُقالُ عَكْسَ هَذا مِن أنَّ النَّهْيَ في الثَّقِيلَةِ أخْفُّ لِأنَّهُ نُهِيَ عَنِ الفِعْلِ المُؤَكَّدِ فَيَبْقى أصْلُ الفِعْلِ. وكَذا ما صَحِبَهُ تَأْكِيدٌ خَفِيفٌ، وفي الخَفِيفَةِ غَيْرُ المُؤَكَّدِ تَأْكِيدًا خَفِيفًا فَلا يَبْقى غَيْرُ أصْلِ الفِعْلِ فَهو أبْلَغُ، لِأنَّ النُّونَ لَمْ تَدْخُلْ إلّا بَعْدَ دُخُولِ النّاهِي فَلَمْ تُفِدْ إلّا قُوَّةَ النَّهْيِ لا قُوَّةَ المَنهِيِّ عَنْهُ - واللَّهُ أعْلَمُ. ﴿الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ أيْ أذى الَّذِينَ لا يُصَدِّقُونَ بِوُعُودِنا تَصْدِيقًا ثابِتًا في القَلْبِ بَلْ هم إمّا شاكُّونَ فَأدْنى شَيْءٍ يُزَلْزِلُهم كَمَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، أوْ مُكَذِّبُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِأوْلِيائِهِ المُؤْمِنِينَ ولِمَن قارَبَهم في التَّمَسُّكِ بِكِتابٍ أصْلُهُ صَحِيحٌ، فَهم يُبالِغُونَ في العَداوَةِ والتَّكْذِيبِ حَتّى أنَّهم لَيُخاطِرُونَ في وعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ الرُّومِ عَلى فارِسَ، (p-١٣٩)كَأنَّهم عَلى ثِقَةٍ وبَصِيرَةٍ مِن أمْرِهِمْ في أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ، فَإذا صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ في ذَلِكَ بِإظْهارٍ عَنْ قَرِيبٍ عَلِمُوا كَذِبَهم عِيانًا، وعَلِمُوا - إنْ كانَ لَهم عِلْمٌ - أنَّ الوَعْدَ بِالسّاعَةِ لِإقامَةِ العَدْلِ عَلى الظّالِمِ والعَوْدِ بِالفَضْلِ عَلى المُحْسِنِ كَذَلِكَ يَأْتِي وهم صاغِرُونَ، ويُحْشَرُونَ وهم داخِرُونَ، ﴿وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] فَقَدِ انْعَطَفَ آخِرُها عَلى أوَّلِها عَطْفَ الحَبِيبِ عَلى الحَبِيبِ، واتَّصَلَ بِهِ اتِّصالَ القَرِيبِ بِالقَرِيبِ، والتَحَمَ التِحامَ النَّسِيبِ بِالنَّسِيبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب