الباحث القرآني

ولَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الروم: ١٥] في أشْكالِها مِنَ الآياتِ دالًّا عَلى أنَّ هَذِهِ الدُّنْيا دارُ العَمَلِ، وأنَّ دارَ الآخِرَةِ دارُ الجَزاءِ، وأنَّ البَرْزَخَ هو حائِلٌ بَيْنَهُما، فَلا يَكُونُ في واحِدَةٍ مِنهُما ما لِلْأُخْرى، سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ أيْ إذْ تَقُومُ السّاعَةُ، وتَقَعُ هَذِهِ المُقاوَلَةُ ﴿لا يَنْفَعُ﴾ أيْ نَفْعًا ما ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أيْ وضَعُوا الأُمُورَ في غَيْرِ مَواضِعِها ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ وهي ما تُثْبِتُ عُذْرَهُمْ، وهو إيساغُ الحِيلَةِ في وجْهٍ يُزِيلُ ما ظَهَرَ مِنَ (p-١٣٣)التَّقْصِيرِ لِأنَّهم لا عُذْرَ لَهم وإنْ بالَغُوا في إثْباتِهِ، والعِبارَةُ شَدِيدَةٌ جِدًّا مِن حَيْثُ كانَتْ تُعْطِي أنَّ مَن وقَعَ مِنهُ ظُلْمٌ ما يَوْمًا ما كانَ هَذا حالَهُ، وهي تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَكُونُ مِنهم مَعاذِيرُ، وتَرَقُّقٌ كَثِيرٌ، وتَذَلُّلٌ كَبِيرٌ، فَلا يُقْبَلُ مِنهُ شَيْءٌ، هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ بِتَأْنِيثِ الفِعْلِ وهي أبْلَغُ مِن قِراءَةِ الكُوفِيِّينَ بِتَذْكِيرِهِ بِتَأْوِيلِ العُذْرِ، لِأنَّهُ إذا لَمْ يَنْفَعِ الِاعْتِذارُ الكَثِيرُ لَمْ يَنْفَعِ القَلِيلُ [الَّذِي] دَلَّ عَلَيْهِ المُجَرَّدُ ولا عَكْسَ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قِراءَةُ الجُمْهُورِ مُتَوَجِّهَةً لِلْكَفَرَةِ وقِراءَةُ الكُوفِيِّينَ لِلْعُصاةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَإنَّ مِنهم مَن يَنْفَعُهُ الِاعْتِذارُ فَيُعْفى عَنْهُ، ويَشْهَدُ لِهَذا ما ورَدَ في «آخِرِ أهْلِ النّارِ خُرُوجًا [مِنها] أنَّهُ يَسْألُ في صَرْفِ وجْهِهِ [عَنْها] ويُعاهِدُ رَبَّهُ سُبْحانَهُ أنَّهُ [لا] يَسْألُهُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإذا صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ رَأى شَجَرَةً عَظِيمَةً فَيَسْألُ أنْ يُقَدِّمَهُ إلى ظِلِّها فَيَقُولُ اللَّهُ: ألَسْتَ أعْطَيْتَ العُهُودَ والمَواثِيقَ [أنْ لا تَسْألَ]؟ فَيَقُولُ: بَلى! يا رَبِّ! ولَكِنْ لا أكُونُ أشْقى خَلْقِكَ - الحَدِيثُ، وفِيهِ ”ورَبُّهُ يَعْذُرُهُ“» فَهَذا قَدْ قَبِلَ عُذْرَهُ (p-١٣٤)فِي الجُمْلَةِ، ولا يَطْلُبُ مِنهُ أنْ يُزِيلَ العُتْبَ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا بِالعَمَلِ، وقَدْ فاتَ مَحَلُّهُ، فَأتَتِ المَغْفِرَةُ مِن وراءِ ذَلِكَ كُلِّهِ. ولَمّا كانَ العِتابُ مِن سُنَّةِ الأحْبابِ قالَ: ﴿ولا هُمْ﴾ أيِ الَّذِينَ وضَعُوا الأشْياءَ في غَيْرِ مَواضِعِها ﴿يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أيْ يُطْلَبُ مِنهم ظاهِرًا أوْ باطِنًا بِتَلْوِيحٍ أوْ تَصْرِيحٍ أنْ يُزِيلُوا ما وقَعُوا فِيهِ مِمّا يُوجِبُ العُتْبَ، وهو المَوْجِدَةُ عَنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ فِيهِ المَعْتُوبُ، لِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِالطّاعَةِ وقَدْ فاتَ مَحَلُّها بِكَشْفِ الغِطاءِ لِفَواتِ الدّارِ الَّتِي تَنْفَعُ فِيها الطّاعاتُ لِكَوْنِها إيمانًا بِالغَيْبِ، والعِبارَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يُعاتَبُونَ عِتابًا يُلَذِّذُهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب