الباحث القرآني

﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لا رادَّ لِأمْرِهِ، لِأهْلِ الكِتابِ عامَّةً، نَصَرَهم عَلى المُشْرِكِينَ في غَزْوَةِ بَدْرٍ وهو المَقْصُودُ بِالذّاتِ، ونَصَرَ الرُّومَ عَلى فارِسَ لِتَصْدِيقِ مَوْعُودِ اللَّهِ ونَصْرِ مَن سَيَصِيرُ مِن أهْلِ الكِتابِ الخاتَمِ مِن مُشْرِكِي العَرَبِ عَلى الفُرْسِ في وقْعَةِ ذِي قارٍ، فَقَدْ وقَعَ الفَرَحُ بِالنَّصْرِ الَّذِي يَنْبَغِي إضافَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى وهو نَصْرُ أهْلِ الدِّينِ الصَّحِيحِ أصْلًا وحالًا ومالًا، وسَوْقُ الكَلامِ عَلى هَذا الوَجْهِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الثَّلاثَةَ مِن بَدائِعِ الإعْجازِ، وسَبَبُ وقْعَةِ ذِي قارٍ أنَّهُ كانَ أبْرَوِيزُ هَذا - الَّذِي غَلَبَ الرُّومَ ثُمَّ غَلَبَتْهُ الرُّومُ - قَدْ غَضِبَ عَلى النُّعْمانِ بْنِ المُنْذِرِ مَلِكِ العَرَبِ، فَأتى النُّعْمانَ هَذا هانِئُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عامِرٍ الشَّيْبانِيُّ، فاسْتَوْدَعَهُ مالَهُ وأهْلَهُ [ووَلَدَهُ] وألْفَ شِكَّةٍ، أوْ أرْبَعَةَ آلافِ شِكَّةِ - والشِّكَّةُ (p-٣٣)بِكَسْرِ المُعْجَمَةِ وتَشْدِيدِ الكافِ: السِّلاحُ كُلُّهُ - ووَضَعَ وضائِعَ عِنْدَ أحْياءِ العَرَبِ ثُمَّ هَرَبَ فَأتى طَيِّئًا لِصِهْرِهِ فِيهِمْ، وكانَتْ عِنْدَهُ فَرِعَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ حارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ وزَيْنَبُ بِنْتُ أوْسِ بْنِ حارِثَةَ بْنِ لَأْمٍ، فَأبَوْا أنْ يُدْخِلُوهُ حَبْلَهم وأتَتْهُ بَنُو رَواحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْسٍ فَقالُوا لَهُ: أبَيْتَ اللَّعْنَ! أقِمْ عِنْدَنا فَإنّا مانِعُوكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنهُ أنْفُسَنا، فَقالَ: ما أُحِبُّ أنْ تَهْلَكُوا بِسَبَبِي فَجُزِيتُمْ خَيْرًا، ثُمَّ خَرَجَ حَتّى وضَعَ يَدَهُ في يَدِ كِسْرى فَحَبَسَهُ بِساباطٍ، وقالَ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ: بِخانِقِينَ، فَلَمْ يَزَلْ في السِّجْنِ حَتّى وقَعَ الطّاعُونُ فَماتَ فِيهِ، قالَ: والنّاسُ يَظُنُّونَ أنَّهُ ماتَ بِساباطَ، والصَّحِيحُ ما حَكَيْناهُ. فَلَمّا ماتَ النُّعْمانُ جَعَلَتْ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ تُغِيرُ في السَّوادِ، فَغَضِبَ مِن ذَلِكَ كِسْرى، ثُمَّ بَعَثَ إلى هانِئِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ لَهُ: إنَّ النُّعْمانَ إنَّما كانَ عامِلِي، وقَدِ اسْتَوْدَعَكَ مالَهُ وأهْلَهُ وحَلْقَتَهُ فابْعَثْ إلَيَّ بِها ولا تُكَلِّفْنِي أنْ أبْعَثَ إلَيْكَ وإلى قَوْمِكَ بِالجُنُودِ فَتُقْتَلَ المُقاتَلَةُ وتُسْبى الذَّرارِيُّ، فَبَعَثَ إلَيْهِ هانِئٌ أنَّ الَّذِي بَلَغَكَ باطِلٌ، وما عِنْدِي شَيْءٌ، وإنْ يَكُنِ الأمْرُ كَما قِيلَ فَإنَّما أنا أحَدُ الرَّجُلَيْنِ: إمّا (p-٣٤)رَجُلٌ اسْتُودِعَ أمانَةً فَهو حَقِيقٌ أنْ يَرُدَّها [عَلى] مَنِ اسْتَوْدَعَها ولَنْ يُسَلِّمَ الحُرَّ أمانَتَهُ، أوْ رَجُلٌ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ ولَيْسَ [يَنْبَغِي] لِلْمَلِكِ أنْ يَأْخُذَهُ بِقَوْلِ عَدُوٍّ أوْ حاسِدٍ. وكانَتِ الأعاجِمُ لَهم قُوَّةٌ وحِلْمٌ، وكانُوا قَدْ سَمِعُوا بِبَعْضِ حِلْمِ العَرَبِ، وأنَّ المُلْكَ كائِنٌ فِيهِمْ، فَلَمّا ورَدَ عَلَيْهِ كِتابُ هانِئٍ بِهَذا حَمَلَتْهُ الشَّفَقَةُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدِ اقْتَرَبَ عَلى أنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، فَأقْبَلَ حَتّى قَطَعَ الفُراتَ فَنَزَلَ غَمْرَ بَنِي مُقاتِلٍ، وقَدْ أحْنَقَهُ ما صَنَعَتْ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ في السَّوادِ ومَنعُ هانِئٍ إيّاهُ ما مَنَعَهُ، ودَعا كِسْرى إياسَ بْنَ قَبِيصَةَ الطّائِيَّ وكانَ عامِلَهُ عَلى عَيْنِ التَّمْرِ وما والاها، فاسْتَشارَهُ في الغارَةِ عَلى بَكْرِ بْنِ وائِلٍ فَقالَ لَهُ إياسٌ: إنَّ المَلِكَ لا يَصْلُحُ أنْ يَعْصِيَهُ أحَدٌ مِن رَعِيَّتِهِ، وإنْ تُطِعْنِي لَمْ يَعْلَمْ أحَدٌ لِأيِّ شَيْءٍ عَبَرْتَ وقَطَعْتَ الفُراتَ، فَيَرَوْنَ أنَّ أمْرَ العَرَبِ قَدْ كَرَبَكَ، ولَكِنْ تَرْجِعُ وتَضْرِبُ [عَنْهُمْ] وتَبْعَثُ عَلَيْهِمُ العُيُونَ حَتّى تَرى مِنهم غِرَّةً ثُمَّ تُرْسِلُ حِينَئِذٍ كَتِيبَةً مِنَ العَجَمِ فِيها بَعْضُ القَبائِلِ الَّتِي تَلِيهِمْ فَيُوقِعُونَ بِهِمْ وقْعَةَ الدَّهْرِ، ويَأْتُونَكَ بِطَلَبِكَ، فَقالَ لَهُ كِسْرى: أنْتَ رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ وبَكْرُ بْنُ وائِلٍ أخْوالُكَ، فَأنْتَ تَتَعَصَّبُ لَهم لا تَأْلُوهم نُصْحًا، فَقالَ إياسٌ: المَلِكُ أفْضَلُ رَأْيًا، فَقامَ عُمَرُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ العَبّادِيُّ (p-٣٥)وكانَ كاتِبَهُ وتُرْجُمانَهُ بِالعَرَبِيَّةِ في أُمُورِ العَرَبِ فَقالَ: قُمْ أيُّها المَلِكُ وابْعَثْ إلَيْهِمْ بِالجُنُودِ يَكْفُوكَ! وقامَ إلَيْهِ النُّعْمانُ بْنُ زَرْعَةَ مِن ولَدِ السَّفّاحِ الثَّعْلَبِيِّ فَقالَ لَهُ: أيُّها المَلِكُ! [إنَّ] هَذا الحَيَّ مِن بَكْرِ بْنِ وائِلٍ إذا قاظُوا تَهافَتُوا عَلى ماءٍ لَهم يُقالُ لَهُ: ذُو قارٍ، تَهافُتَ الفِراشِ في النّارِ، فَعَقَدَ لِنُعْمانَ بْنِ زَرْعَةَ عَلى تَغْلِبَ والنَّمِرِ، وعَقَدَ لِخالِدِ بْنِ يَزِيدَ البَهْرانِيِّ عَلى قُضاعَةَ وإيادٍ و[عَقَدَ] لِإياسِ بْنِ قَبِيصَةَ عَلى جَمِيعِ العَرَبِ، ومَعَهُ كَتِيبَتاهُ الشَّهْباءُ [و] الدَّوْسَرُ، فَكانَتِ العَرَبُ ثَلاثَةَ آلافٍ، وعَقَدَ لِلْهامُرْزِ عَلى ألْفٍ [مِنَ الأساوِرَةِ، وعَقَدَ لِخِيارِزَيْنِ عَلى ألْفٍ]، وبَعَثَ مَعَهم بِاللَّطِيمَةِ وهي عِيرٌ كانَتْ تَخْرُجُ مِنَ العِراقِ فِيها البُنُّ والعِطْرُ والألْطافُ، تُوصِلُ ذَلِكَ إلى باذانَ عامِلِ كِسْرى عَلى اليَمَنِ، وقالَ: إذا فَرَغْتُمْ مِن عَدُوِّكم فَسِيرُوا بِها إلى اليَمِينِ، وأمَرَ عَمْرَو بْنَ عَدِيٍّ أنْ يَسِيرَ بِها، وكانَتِ العَرَبُ تُحَقِّرُهم حَتّى تَبْلُغَ اللَّطِيمَةُ اليَمَنَ، وعَهَدَ كِسْرى إلَيْهِمْ إذا شارَفُوا بِلادَ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ أنْ يَبْعَثُوا إلَيْهِمُ النُّعْمانَ بْنَ زَرْعَةَ، فَإنْ أتَوْكم بِالحَلْقَةِ ومِائَةِ غُلامٍ مِنهم يَكُونُونَ رَهْنًا بِما أحْدَثَ سُفَهاؤُهم فاقْبَلُوا مِنهم وإلّا فَقاتِلُوهم. فَلَمّا بَلَغَ الخَبَرُ بَكْرَ بْنَ (p-٣٦)وائِلٍ سارَ هانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى نَزَلَ بِذِي قارٍ، وأقْبَلَ النُّعْمانُ بْنُ زَرْعَةَ حَتّى نَزَلَ عَلى ابْنِ أُخْتِهِ مُرَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ العِجْلِيِّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: إنَّكم أخْوالِي وأحَدُ طَرَفَيَّ، وإنَّ الرّائِدَ لا يَكْذِبُ أهْلَهُ، وقَدْ أتاكم ما لا قِبَلَ لَكم بِهِ مِن أحْرارِ فارِسَ وفُرْسانِ العَرَبِ والكَتِيبَتانِ [الشَّهْباءُ] والدَّوْسَرُ، [و] إنَّ الشَّرَّ خَيِارًا، ولَأنْ يَفْدِيَ بَعْضُكم بَعْضًا خَيْرٌ مِن أنْ تَصْطَلِمُوا، انْظُرُوا هَذِهِ الحَلْقَةَ فادْفَعُوها وادْفَعُوا مَعَها رَهْنًا مِن أبْنائِكم إلَيْهِ بِما أحْدَثَ سُفَهاؤُكُمْ، فَقالَ لَهُ القَوْمُ: نَنْظُرُ في أُمُورِنا، وبَعَثُوا [إلى] مَن يَلِيهِمْ مِن بَكْرِ بْنِ وائِلٍ وبَرَزُوا بِبَطْحاءِ ذِي قارٍ بَيْنَ الجَلْهَتَيْنِ - وجَلْهَةُ الوادِي: مُقَدَّمُهُ، مِثْلُ جَلْهَةِ الرَّأْسِ إذا ذَهَبَ شَعْرُهُ - وجَعَلَتْ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ حِينَ بَعَثُوا إلى مَن حَوْلَهم مِن قَبائِلِ بَكْرٍ لا تَرْفَعُ لَهم جَماعَةً إلّا قالُوا: سَيِّدُنا في هَذِهِ الجَماعَةِ، إلى أنْ رَفَعَتْ لَهم جَماعَةٌ فِيها حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سِنانٍ العِجْلِيُّ فَقالُوا: يا أبا مَعْدانَ فَقَدْ طالَ انْتِظارُنا وقَدْ كَرِهْنا أنْ نَقْطَعَ أمْرًا دُونَكَ، وهَذا ابْنُ أُخْتِكَ النُّعْمانُ بْنُ زَرْعَةَ قَدْ جاءَ والرّائِدُ لا يَكْذِبُ أهْلَهُ، قالَ: فَما الَّذِي أجْمَعَ رَأْيُكم عَلَيْهِ؟ قالُوا: قُلْنا اللَّحْيُ أهْوَنُ مِنَ الوَهْيِ، وإنَّ في الشَّرِّ خِيارًا، ولَأنْ نَفْدِيَ بَعْضَنا بَعْضًا خَيْرٌ مِن أنْ نَصْطَلِمَ جَمِيعًا، فَقالَ حَنْظَلَةُ: (p-٣٧)قَبَّحَ اللَّهُ هَذا رَأْيًا، لا تُجْرِ أحْرارُ فارِسَ غَزْلَها بِبَطْحاءِ ذِي قارٍ وأنا أسْمَعُ صَوْتًا، ثُمَّ أمَرَ بِقُبَّتِهِ فَضُرِبَتْ بِوادِي ذِي قارٍ ونَزَلَ النّاسُ فَأطافُوا بِهِ ثُمَّ قالَ لِهانِئِ بْنِ مَسْعُودٍ: يا أبا أُمامَةَ! إنَّ ذَمَّتَكم ذِمَّتُنا عامَّةً، وإنَّهُ لَنْ يُوصَلَ إلَيْكَ حَتّى تَفْنى أرْواحُنا، فَأخْرِجْ هَذِهِ الحَلْقَةَ فَفَرِّقْها بَيْنَ قَوْمِكَ، فَإنْ تَظْفَرْ فَسُتَرَدُّ عَلَيْكَ، وإنْ تَهْلِكْ فَأهْوَنُ مَفْقُودٌ، فَأمَرَ بِها فَأُخْرِجَتْ فَفَرَّقَها بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قالَ حَنْظَلَةُ لِلنُّعْمانِ: لَوْلا أنَّكَ رَسُولٌ لَما أُبْتَ إلى أهْلِكَ سالِمًا، فَرَجَعَ النُّعْمانُ إلى أصْحابِهِ، فَأخْبَرَهم فَباتُوا لَيْلَتَهم يَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتالِ، وباتَ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ يَسْتَعِدُّونَ لِلْحَرْبِ، فَلَمّا أصْبَحُوا أقْبَلَتِ الأعاجِمُ نَحْوَهم وأمَرَ حَنْظَلَةُ بِالظُّعُنِ جَمِيعًا فَوَقَفَها خَلْفَ النّاسِ ثُمَّ قالَ: يا مَعْشَرَ بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ! قاتِلُوا عَنْ ظُعُنِكم أوْ دَعُوا، وأقْبَلَتِ الأعاجِمُ يَسِيرُونَ إلى تَعْبِئَةٍ، وكانَ رَبِيعَةُ بْنُ غَزالَةَ السَّكُوتِيُّ ثُمَّ التَّجِيبِيُّ يَوْمَئِذٍ هو وقَوْمُهُ نُزُولًا في بَنِي شَيْبانَ [فَقالَ]: [يا بَنِي شَيْبانَ]! أما إنِّي لَوْ كُنْتُ مِنكم لَأشَرْتُ عَلَيْكم بِرَأْيٍ مِثْلِ عُرْوَةِ العَلَمِ قالُوا: وأنْتَ واللَّهِ مِن أوْسَطِنا، أشِرْ عَلَيْنا، قالَ: لا تَسْتَهْدِفُوا هَذِهِ الأعاجِمَ فَتُهْلِكَكم بِنِشابِها، ولَكِنْ تَكَرْدَسُوا لَهم كَرادِيسَ فَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ كُرْدُوسٌ، فَإذا أقْبَلُوا عَلَيْهِ شَدَّ الآخَرُ، قالُوا: فَإنَّكَ قَدْ رَأيْتَ رَأْيًا، فَفَعَلُوا، فَلَمّا التَقى الزَّحَفانِ وتَقارَبَ (p-٣٨)القَوْمُ قامَ حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ فَقالَ: يا مَعْشَرَ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ! إنَّ النَّشّابَ الَّذِي مَعَ الأعاجِمِ يَعْرِفُكُمْ، فَإذا أرْسَلُوهُ لَمْ يُخْطِكُمْ، فَعاجِلُوهُمُ اللِّقاءَ وابْدَأُوهُمْ، ثُمَّ قامَ هانِئُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقالَ: يا قَوْمِ! مَهْلِكٌ مَعْذُورٌ خَيْرٌ مِن مَنجًى مَفْرُورٍ، إنَّ الحَذَرَ لا يَدْفَعُ القَدَرَ، وإنَّ الصَّبْرَ مِن أسْبابِ الظَّفَرِ، المَنِيَّةُ ولا الدَّنِيَّةُ، واسْتِقْبالُ المَوْتِ خَيْرٌ مِنِ اسْتِدْبارِهِ، يا قَوْمِ: جِدُّوا، فَما مِنَ القَوْمِ بُدٌّ فَتْحٌ لَوْ كانَ رِجالٌ [أجِدُّ]، أسْمَعُ صَوْتًا ولا أرى فَوْتًا، يا لَبَكْرٍ! شُدُّوا واسْتَعِدُّوا، فَإنْ لا تَشُدُّوا تُرَدُّوا، ثُمَّ قامَ شَرِيكُ بْنُ عَمْرِو بْنِ شَراحِيلَ فَقالَ: يا قَوْمِ! إنَّما تَهابُونَهم أنَّكم تَرَوْنَهم عِنْدَ الحِفاظِ أكْثَرَ مِنكُمْ، وكَذَلِكَ أنْتُمْ في عُيُونِهِمْ فَعَلَيْكم بِالصَّبْرِ، فَإنَّ الأسِنَّةَ تُرْدِي الأعِنَّةَ، يا لَبَكْرٍ! قُدُمًا قُدُمًا، ثُمَّ قامَ عَمْرُو بْنُ جَبَلَةَ اليَشْكُرِيُّ فَقالَ: ؎يا قَوْمِ لا تَغْرُرْكم هَذِي الخِرَقْ ∗∗∗ ولا ومِيضُ البِيضِ في شَمْسٍ بَرِقَ ؎مَن لَمْ يُقاتِلْ مِنكم هَذِي العُنُقْ ∗∗∗ ∗∗∗ فَجَنِّبُوهُ اللَّحْمَ واسْقُوهُ المَرَقْ ثُمَّ قامَ حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ إلى وضِينِ امْرَأتِهِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ تَتَّبَعَ الظُّعُنَ بِقَيْعِ وضْنِهِنَّ، لِئَلّا يَفِرَّ عَنْهُنَّ الرِّجالُ، والوَضِينُ: بِطانُ النّاقَةِ فَسُمِّيَ (p-٣٩)يَوْمَئِذٍ: مَقْطَعُ الوَضَنِ. وقالَ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ: إنَّهُ لَمّا قُطِعَ الوَضَنُ وقَعَ النِّساءُ إلى الأرْضِ وإنَّ بِنْتَ القَرِينِ الشَّيْبانِيَّةَ نادَتْ: ؎ويْهًا بَنِي شَيْبانَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ ؎إنْ تُهْزَمُوا يُصْبِغُوا فِينا القَلَفَ فَقَطَعَ سَبْعُمِائَةٍ مِن بَنِي شَيْبانَ [أيْدِيَ] أقْبِيَتِهِمْ مِن قِبَلِ مَناكِبِهِمْ لِتَخِفَّ أيْدِيهِمْ بِالضَّرْبِ، وتَقَدَّمَتْ عَجَلٌ فَأبْلَتْ يَوْمَئِذٍ بَلاءً حَسَنًا، واضْطَمَّتْ عَلَيْهِمْ جُنُودُ العَجَمِ فَقالَ النّاسُ: هَلَكَتْ عَجَلٌ، ثُمَّ حَمَلَتْ بَكْرٌ فَوَجَدَتْ عَجَلًا ثابِتَةً تَقاتُلٍ وامْرَأةً مِنهم تَقُولُ: ؎إنْ يَظْفَرُوا يُحْرِزُوا فِينا الغَرَلْ ∗∗∗ فَدى لَكم نَفْسِي فَدى بَنِي عَجَلْ وتَقُولُ أيْضًا: ؎إنْ تُقْدِمُوا نُعانَقْ ∗∗∗ ونَفْرِشِ النَّمارِقْ ؎أوْ تَهْرُبُوا نُفارَقْ ∗∗∗ فِراقٌ غَيْرُ وامِقْ فَكانَتْ بَنُو عَجَلٍ في المَيْمَنَةِ بِإزاءِ خَيارَزِينَ وبَنُو شَيْبانَ في المَيْسَرَةِ (p-٤٠)بِإزاءِ كَتِيبَةِ الهامُرْزِ، وأفْناءُ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ في القَلْبِ فَخَرَجَ أسْوارٌ مِنَ الأعاجِمِ مُسَوَّرٌ مُشَنَّفٌ في أُذُنَيْهِ دُرَّتانِ، مِن كَتِيبَةِ الهامُرْزِ يَتَحَدّى النّاسَ لِلْبِرازِ، فَنادى في بَنِي شَيْبانَ فَلَمْ يُبارِزْهُ أحَدٌ حَتّى إذا دَنا مَن بَنِي يَشْكُرَ بَرَزَ لَهُ بَرْدُ بْنُ حارِثَةَ أخُو بَنِي ثَعْلَبَةَ فَشَدَّ عَلَيْهِ بِالرُّمْحِ فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ وأخَذَ حِلْيَتَهُ وسِلاحَهُ، وقالَ ابْنُ مِسْكَوَيْهِ: ونادى الهامَرْزُ لَمّا رَأى جِدَّ القَوْمِ وثَباتَهم لِلْحَرْبِ وصَبْرَهم لِلْمَوْتِ مَرَدَ ومَرَدَ، فَقالَ بَرَدُ بْنُ حارِثَةَ اليَشْكُرِيُّ: ما يَقُولُ؟ قِيلَ: يَدْعُو إلى البِرازِ! يَقُولُ: رَجُلٌ ورَجُلٌ! فَقالَ: وأبِيكم لَقَدْ أنْصَفَ، وبَرَزَ لَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ بَرْدٌ أنْ تَمَكَّنَ مِنَ الهامَرْزِ فَقَتَلَهُ. وقالَ ابْنُ مَكْرَمٍ في اخْتِصارِهِ لِلْأغانِي: ثُمَّ اقْتَتَلُوا صَدْرَ نَهارِهِمْ أشَدَّ قِتالٍ رَآهُ النّاسُ إلى أنْ زالَتِ الشَّمْسُ، فَشَدَّ الحَوْقَرانِ واسْمُهُ الحارِثُ ابْنُ شَرِيكٍ [عَلى] الهامَرْزِ فَقَتَلَهُ وقَتَلَتْ بَنُو عَجَلٍ خِيارَزِينَ، وضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ الفُرْسِ فانْهَزَمُوا، وتَبِعَتْهم بَكْرُ بْنُ وائِلٍ يَقْتُلُونَهم بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتّى أصْبَحُوا مِنَ الغَدِ وقَدْ شارَفُوا السَّوادَ ودَخَلُوهُ فَلَمْ يَلْفِتْ مِنهم كَبِيرُ أحَدٍ، وأقْبَلَتْ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ عَلى الغَنائِمِ فَقَسَمُوها بَيْنَهُمْ، (p-٤١)وقَسَمُوا تِلْكَ اللَّطائِمَ بَيْنَ نِسائِهِمْ، وكانَ أوَّلَ مَنِ انْصَرَفَ إلى كِسْرى بِالهَزِيمَةِ إياسُ بْنُ قَبِيصَةَ، وكانَ لا يَأْتِيهِ أحَدٌ بِهَزِيمَةِ جَيْشٍ إلّا نَزَعَ كَتِفَيْهِ، فَلَمّا أتاهُ إياسٌ سَألَهُ عَنِ الخَبَرِ فَقالَ: هَزَمْنا بَكْرَ بْنَ وائِلٍ، وأتَيْناكَ بِنِسائِهِمْ، فَأعْجَبَ ذَلِكَ كِسْرى، وأمَرَ لَهُ بِكُسْوَةٍ، ثُمَّ إنَّ إياسًا اسْتَأْذَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّ أخِي مَرِيضٌ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَأرَدْتُ أنْ آتِيَهُ، وإنَّما أرادَ أنْ يَنْتَحِيَ عَنْهُ، فَأذِنَ لَهُ، ثُمَّ أتى رَجُلٌ مِن أهْلِ الحَيْرَةِ فَسَألَ: هَلْ دَخَلَ عَلى المَلِكِ أحَدٌ؟ فَقالُوا: نَعَمْ! إياسٌ، فَقالَ: ثَكِلَتْ إياسًا أُمُّهُ! وظَنَّ أنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِالخَبَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ بِهَزِيمَةِ القَوْمِ وقَتْلِهِمْ، فَأمَرَ بِهِ فَنُزِعَتْ [كَتِفاهُ]؛ وكانَتْ وقْعَةُ ذِي قارٍ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ بِأشْهُرٍ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ، فَلَمّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قالَ: ”هَذا أوَّلُ يَوْمٍ انْتَصَفَتْ فِيهِ العَرَبُ مِنَ العَجَمِ وبِي نُصِرُوا“ . رَوى ذَلِكَ الطَّبَرانِيُّ في المُعْجَمِ الكَبِيرِ، وقِيلَ: إنَّ الوَقْعَةَ مُثِّلَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو بِالمَدِينَةِ فَرَفَعَ يَدَهُ، فَدَعا لَبَنِي شَيْبانَ أوْ لِجَماعَةِ رَبِيعَةَ بِالنَّصْرِ، ولَمْ يَزَلْ يَدْعُو لَهم حَتّى أُرِيَ هَزِيمَةَ الفُرْسِ، ورُوِيَ أنَّهُ ﷺ قالَ: «إيهًا بَنِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ» فَهم إلى الآنِ إذا حارَبُوا نادَوْا بِشِعارِ النَّبِيِّ ﷺ ودَعَوَتِهِ، وقالَ قائِلُهُمْ: يا رَسُولَ اللَّهِ! دَعْوَتَكَ، فَإذا دَعَوْا بِذَلِكَ نُصِرُوا. ورَوى الطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ - قالَ (p-٤٢)الهَيْثَمِيُّ: ورِجالُهُ رِجالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ خَلّادِ بْنِ عِيسى وهو ثِقَةٌ - عَنْ خالِدِ ابْنِ سَعِيدِ بْنِ العاصِ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «قَدِمَتْ بَكْرُ بْنُ وائِلٍ مَكَّةَ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:”ائْتِهِمْ فاعْرِضْ عَلَيْهِمْ!“فَأتاهم فَقالَ: مَنِ القَوْمُ؟ [ثُمَّ عادَ إلَيْهِمْ ثانِيَةً فَقالَ: مَنِ القَوْمُ]؟ فَقالُوا: بَنُو ذُهْلِ بْنِ شَيْبانَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإسْلامَ، قالُوا: حَتّى يَجِيءَ شَيْخُنا فُلانٌ - قالَ خَلّادٌ: أحْسَبُهُ قالَ: المُثَنّى بْنُ خارِجَةَ - فَلَمّا جاءَ شَيْخُهم عَرَضَ عَلَيْهِمْ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: إنَّ بَيْنَنا وبَيْنَ الفُرْسِ حَرْبًا، فَإذا فَرَغْنا مِمّا بَيْنَنا وبَيْنَهم عُدْنا فَنَظَرْنا، فَقالَ لَهُ أبُو بَكْرٍ: أرَأيْتَ إنْ غَلَبْتُمُوهم أتَتْبَعُنا عَلى أمْرِنا؟ قالَ: لا نَشْتَرِطُ لَكَ هَذا عَلَيْنا ولَكِنْ إذا فَرَغْنا فِيما بَيْنَنا وبَيْنَهم عُدْنا فَنَظَرْنا فِيما نَقُولُ، فَلَمّا التَقَوْا يَوْمَ ذِي قارٍ هم والفُرْسُ قالَ شَيْخُهُمْ: ما اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي دَعاكم إلى اللَّهِ؟ قالُوا: مُحَمَّدٌ، قالَ: فَهو شِعارُكُمْ! فَنُصِرُوا عَلى القَوْمِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" بِي نُصِرُوا» انْتَهى. ومِنَ الأشْعارِ في وقْعَةِ ذِي قارٍ قَوْلُ أبِي كَلْبَةَ التَّمِيمِيِّ:(p-٤٣) ؎لَوْلا فَوارِسُ لا مَيْلَ ولا عَزْلَ ∗∗∗ مِنَ اللَّهازِمِ ما قِظْتُمْ بِذِي قارِ ؎إنَّ الفَوارِسَ مِن عَجَلٍ هم أنِفُوا ∗∗∗ بِأنْ يُخَلُّوا لِكِسْرى عَرْصَةَ الدّارِ ؎قَدْ أحْسَنَتْ ذُهْلُ شَيْبانَ وما عَدَلَتْ ∗∗∗ في يَوْمِ ذِي قارٍ فُرْسانَ ابْنِ سَيّارِ ؎هُمُ الَّذِينَ أتَوْهم عَنْ شَمائِلِهِمْ ∗∗∗ كَما تَلَبَّسَ ورادٌ بِصَدارِ وقالَ الأعْشى: ؎فَدى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبانَ ناقَتِي ∗∗∗ وصاحِبُها يَوْمَ اللِّقاءِ وفَلَّتِ ؎هم ضَرَبُوا بِالحُنُوِّ حُنُوِّ قَراقِرَ ∗∗∗ مُقَدِّمَةَ الهامَرْزَ حَتّى تَوَلَّتِ ولَمّا أخْبَرَ بِإدالَةِ الرُّومِ بَعْدَ الإدالَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ ما دَخَلَ تَحْتَ مَفْهُومِ الآيَةِ، وكانَ [رُبَّما] قِيلَ: ما لَهُ لَمْ يَدُمْ نَصْرُ أهْلِ الكِتابِ؟ عَلَّلَ ذَلِكَ [كُلَّهُ] بِقَوْلِهِ: ﴿يَنْصُرُ مَن يَشاءُ﴾ مِن ضَعِيفٍ وقَوِيٍّ، لِأنَّهُ [لا] مانِعَ لَهُ ولا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ ﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ فَلا يُعَزُّ مَن عادى، ولا يُذَلُّ مَن والى، ولَمّا كانَ هَذا السِّياقُ لِبِشارَةِ المُؤْمِنِينَ قالَ: ﴿الرَّحِيمُ﴾ أيْ يَخُصُّ حِزْبَهُ بِما يُنِيلُهم قُرْبَهُ مِنَ الأخْلاقِ الزَّكِيَّةِ، والأعْمالِ المُرْضِيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب