الباحث القرآني

﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ أيْ بِالمُشاهَدَةِ والإخْبارِ رُؤْيَةً مُتَكَرِّرَةً، [فَيَعْلَمُوا عِلْمًا هو في ثَباتِهِ كالمُشاهَدِ المَحْسُوسِ، وعَبَّرَ بِالرُّؤْيَةِ الصّالِحَةِ لِلْبَصَرِ والبَصِيرَةِ لِأنَّ مَقْصُودَ السُّورَةِ إثْباتُ الأمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ، ولا يَكْفِي فِيهِ إلّا بَذْلُ الجُهْدِ وإمْعانُ النَّظَرِ، والسِّياقُ لِذَمِّ القُنُوطِ الَّذِي يَكْفِي في بَقِيَّةِ المُشاهَدَةِ لِاخْتِلافِ الأحْوالِ، بِخِلافِ الزُّمَرِ الَّتِي مَقْصُودُها الدَّلالَةُ عَلى صِدْقِ الوَعْدِ الكافِي فِيهِ مُطْلَقُ العِلْمِ]. ولَمّا كانَ في البَسْطِ والقَبْضِ جَمْعٌ بَيْنَ جَلالٍ وجَمالٍ، لَفَتَ الكَلامَ بِذِكْرِ الِاسْمِ الجامِعِ فَقالَ: ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ بِجَلالِهِ وعَظَمَتِهِ ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ أيْ يُكَثِّرُهُ ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ مِن عِبادِهِ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ ﴿ويَقْدِرُ﴾ أيْ يُضَيِّقُ، وأنَّ هَذا شَأْنُهُ دائِمًا مَعَ الشَّخْصِ الواحِدِ في أوْقاتٍ مُتَعاقِبَةٍ مُتَباعِدَةٍ ومُتَقارِبَةٍ، ومَعَ الأشْخاصِ ولَوْ في الوَقْتِ الواحِدِ، فَلَوِ اعْتَبَرُوا حالَ قَبْضِهِ سُبْحانَهُ لَمْ يَبْطُرُوا، ولَوِ اعْتَبَرُوا حالَ بَسْطِهِ لَمْ يَقْنَطُوا، بَلْ كانَ حالُهُمُ الصَّبْرَ في البَلاءِ، والشُّكْرَ في الرَّخاءِ، والإقْلاعَ عَنِ السَّيِّئَةِ الَّتِي نَزَلَ بِسَبَبِها القَضاءُ، فَقَدْ عَرَفَ مِن حالِهِمْ أنَّهم مُتَقَيِّدُونَ دائِمًا بِالحالَةِ الرّاهِنَةِ. يَغْلَطُونَ في الأُمُورِ المُتَكَرِّرَةِ المُشاهَدَةِ، فَلا عَجَبَ في تَقَيُّدِهِمْ في إنْكارِ البَعْثِ بِهَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا. (p-٩٧)ولَمّا لَمْ يُغْنِ عَنْ أحَدٍ مِنهم في اسْتِجْلابِ الرِّزْقِ [قُوَّتُهُ] وغَزارَةُ عَقْلِهِ ودِقَّةُ مَكْرِهِ [وكَثْرَةُ] حِيَلِهِ، ولا ضَرَّهُ ضَعْفُهُ وقِلَّةُ عَقْلِهِ وعَجْزُ حِيلَتِهِ، وكانَ ذَلِكَ أمْرًا عَظِيمًا ومَنزِعًا مَعَ شِدَّةِ ظُهُورِهِ وجَلالَتِهِ خَفِيًّا دَقِيقًا كَما قالَ بَعْضُهُمْ: ؎كَمْ عاقِلٍ عاقِلٍ أعْيَتْ مَذاهِبُهُ ∗∗∗ وجاهِلٍ جاهِلٍ تَلْقاهُ مَرْزُوقًا أشارَ سُبْحانَهُ إلى عَظَمَتِهِ بِقَوْلِهِ، مُؤَكِّدًا لِأنَّ عَمَلَهم في شِدَّةِ اهْتِمامِهِمْ بِالسَّعْيِ في الدُّنْيا عَمَلُ مَن يَظُنُّ تَحْصِيلَها إنَّما هو عَلى قَدْرِ الِاجْتِهادِ في الأسْبابِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرِ العَظِيمِ مِنَ الإقْتارِ في وقْتٍ والإغْناءِ في آخَرَ والتَّوْسِيعِ عَلى شَخْصٍ والتَّقْتِيرِ عَلى آخَرَ، والأمْنِ مِن زَوالِ الحاضِرِ مِنَ النِّعَمِ مَعَ تَكَرُّرِ المُشاهَدَةِ لِلزَّوالِ في النَّفْسِ والغَيْرِ، واليَأْسِ مِن حُصُولِها عِنْدَ المِحْنَةِ مَعَ كَثْرَةِ وِجْدانِ الفَرَجِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أسْرارِ الآيَةِ ﴿لآياتٍ﴾ أيْ دَلالاتٍ واضِحاتٍ عَلى الوَحْدانِيَّةِ لِلَّهِ تَعالى وتَمامِ العِلْمِ وكَمالِ القُدْرَةِ، وأنَّهُ لا فاعِلَ في الحَقِيقَةِ إلّا هو لَكِنْ ﴿لِقَوْمٍ﴾ أيْ ذَوِي هِمَمٍ وكِفايَةٍ لِلْقِيامِ بِما يَحِقُّ لَهم أنْ يَقُومُوا فِيهِ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ يُوجِدُونَ هَذا الوَصْفَ ويُدِيمُونَ تَجْدِيدَهُ كُلَّ وقْتٍ لِما يَتَواصَلُ عِنْدَهم (p-٩٨)مِن قِيامِ الأدِلَّةِ، بِإدامَةِ التَّأمُّلِ والإمْعانِ في التَّفَكُّرِ، والِاعْتِمادِ في الرِّزْقِ عَلى مَن قالَ ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧] أيْ مِن طالِبِ عِلْمٍ فَيُعانَ عَلَيْهِ فَلا يَفْرَحُونَ بِالنِّعَمِ إذا حَصَلَتْ خَوْفًا مِن زَوالِها إذا أرادَ القادِرُ، ولا يَغْتَمُّونَ بِها إذا زالَتْ رَجاءً في إقْبالِها فَضْلًا مِنَ الرّازِقِ، لِأنَّ «أفْضَلَ العِبادَةِ انْتِظارُ الفَرَجِ» بَلْ هم بِما عَلَيْهِمْ مِن وظائِفِ العِبادَةِ واجِبِها ومَندُوبِها مُعَرَّضُونَ عَمّا سِوى ذَلِكَ، وقَدْ وكَّلُوا أمْرَ الرِّزْقِ إلى مَن تَوَلّى أمْرَهُ وفَرَغَ مِن قَسْمِهِ وقامَ بِضَمانِهِ، وهو القَدِيرُ العَلِيمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب