الباحث القرآني
(p-٣)﴿فِي أدْنى الأرْضِ﴾ أيْ أقْرَبِ أرْضِهِمْ إلى أرْضِكم أيُّها العَرَبُ، وهي في أطْرافِ الشّامِ، وفي تَعْيِينِ مَكانِ الغَلَبِ [عَلى هَذا الوَجْهِ] بِشارَةٌ لِلْعَرَبِ بِأنَّهم يَغْلِبُونَهم إذا وافَقُوهُمْ، فَإنَّ مُوافَقَتَهم لَهم تَكُونُ في مِثْلِ ذَلِكَ المَكانِ. وقَدْ كانَ كَذَلِكَ بِما كَشَفَ عَنْهُ الزَّمانُ، فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لِمَن فَرِحَ مِنَ العَرَبِ بِنَصْرِ أهْلِ فارِسَ عَلى الرُّومِ لِنِكايَةِ المُسْلِمِينَ: اتْرُكُوا هَذا السُّرُورَ الَّذِي لا يُصَوِّبُ نَحْوَهُ مَن لَهُ هِمَّةُ الرِّجالِ، وأجْمِعُوا أمْرَكم وأجْمِعُوا شَمْلَكُمْ، لِتُواقِعُوهم في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ فَتُنْصَرُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لا يُقاوِمُونَكم بَعْدَها أبَدًا، فَتَغْلِبُوا عَلى بِلادِهِمْ ومُدُنِهِمْ وحُصُونِهِمْ وأمْوالِهِمْ ونِسائِهِمْ وأبْنائِهِمْ.
[و] قالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا أعْتَبَ سُبْحانَهُ أهْلَ مَكَّةَ، ونَفى عَلَيْهِمْ قُبْحَ صَنِيعِهِمْ في التَّغافُلِ عَنِ الِاعْتِبارِ بِحالِهِمْ، وكَوْنَهم - مَعَ قِلَّةِ عَدَدَهم - قَدْ مَنَعَ اللَّهُ بَلَدَهم عَنْ قاصِدِ نَهْبِهِ، وكَفَّ أيْدِيَ العُتاةِ والمُتَمَرِّدِينَ عَنْهم مَعَ تَعاوُرِ أيْدِي المُنْتَهِبِينَ عَلى مَن حَوْلِهِمْ، وتَكَرُّرُ ذَلِكَ واطِّرادُهُ صَوْنًا مِنهُ تَعالى لِحَرَمِهِ وبَيْتِهِ، فَقالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧] أيْ: أوَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذا في الِاعْتِبارِ، وتَبَيَّنُوا أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَنْ قُوَّةٍ مِنهم ولا حُسْنِ دِفاعٍ، وإنَّما هو بِصَوْنِ اللَّهِ (p-٤)إيّاهم بِمُجاوِرَةِ بَيْتِهِ ومُلازِمَةِ أمْنِهِ مَعَ أنَّهم أقَلُّ العَرَبِ، أفَلا يَرَوْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ ويُقابِلُونَها بِالشُّكْرِ والِاسْتِجابَةِ قَبْلَ أنْ يُحِلَّ بِهِمْ نَقَمَهُ، ويَسْلُبَهم نِعَمَهُ، فَلَمّا قَدَّمَ تِذْكارَهم بِهَذا، أعْقَبَ بِذِكْرِ طائِفَةٍ هم أكْثَرُ مِنهم وأشَدُّ قُوَّةً وأوْسَعُ بِلادًا، وقَدْ أيَّدَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، ولَمْ يُغْنِ عَنْهُمُ انْتِشارُهم وكَثْرَتُهُمْ، فَقالَتْ: ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢] ﴿فِي أدْنى الأرْضِ﴾ الآياتُ، فَذَكَرَ تَعالى غَلَبَةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ، وأنَّهم سَتَكُونُ لَهم كَرَّةٌ، ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وما ذَلِكَ إلّا بِنَصْرِ اللَّهِ مَن شاءَ مِن عَبِيدِهِ ﴿يَنْصُرُ مَن يَشاءُ﴾ [الروم: ٥] فَلَوْ كَشَفَ عَنْ أبْصارِ مَن كانَ بِمَكَّةَ مِنَ الكُفّارِ لَرَأوْا أنَّ اعْتِصامَ بِلادِهِمْ، وسَلامَةَ ذُرِّيّاتِهِمْ وأوْلادِهِمْ مِمّا سُلِّطَ عَلى مَن حَوْلَهم مِنَ الِانْتِهابِ والقَتْلِ وسَبْيِ الذَّرارِيِّ والحَرَمِ، إنَّما هو بِمَنعِ اللَّهِ وكَرَمِ صَوْنِهِ لِمَن جاوَرَ حَرَمَهُ وبَيْتَهُ، وإلّا فالرُّومُ أكْثَرُ عَدَدًا وأطْوَلُ مَدَدًا، ومَعَ ذَلِكَ تَتَكَرَّرُ عَلَيْهِمُ الفَتْكاتُ والغاراتُ، وتَتَوالى عَلَيْهِمُ الغَلَباتُ، أفَلا يَشْكُرُ أهْلُ مَكَّةَ مَن أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ؟
وأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قالَ: ﴿وما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ﴾ [العنكبوت: ٦٤] أتْبَعَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ بِذِكْرِ تَقَلُّبِ حالِها، وتُبَيِّنُ اضْمِحْلالَها، وأنَّها لا تَصْفُو ولا تَتِمُّ، وإنَّما حالُها أبَدًا التَّقَلُّبُ وعَدَمُ الثَّباتِ، فَأخْبَرَ بِأمْرِ هَذِهِ الطّائِفَةِ الَّتِي [هِيَ] مِن أكْثَرِ أهْلِ الأرْضِ وأمْكَنِهِمْ وهُمُ الرُّومُ، (p-٥)وأنَّهم لا يَزالُونَ مَرَّةً عَلَيْهِمْ وأُخْرى لَهُمْ، فَأشْبَهَتْ حالُهم هَذِهِ حالَ اللَّهْوِ واللَّعِبِ، فَوَجَبَ اعْتِبارُ العاقِلِ بِذَلِكَ وطَلَبُهُ الحُصُولَ عَلى تَنَعُّمِ دارٍ لا يَنْقَلِبُ حالُها، ولا يُتَوَقَّعُ انْقِلابُها وزَوالُها،
﴿وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ﴾ [العنكبوت: ٦٤] ومِمّا يُقَوِّي هَذا المَأْخَذَ قَوْلُهُ تَعالى ”يَعْلَمُونَ“ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا أيْ لَوْ عَلِمُوا باطِنَها لَتَحَقَّقُوا أنَّها لَهْوٌ ولَعِبٌ ولَعَرَفُوا أمْرَ الآخِرَةِ ”مَن عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ“.
ومِمّا يَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنَ المَقْصِدَيْنِ ويُعَضِّدُ كِلا الأمْرَيْنِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ [الروم: ٩] الآياتُ، أيْ لَوْ فَعَلُوا هَذا وتَأمَّلُوا لَشاهَدُوا مِن تَقَلُّبِ أحْوالِ الأُمَمِ وتَغَيُّرِ الأزْمِنَةِ والقُرُونِ ما بَيَّنَ لَهم عَدَمَ إبْقائِها عَلى أحَدٍ فَتَحَقَّقُوا لَهْوَها ولَعِبَها وعَلِمُوا أنَّ حالَهم سَيَؤُولُ إلى حالِ مَنِ ارْتَكَبَ مُرْتَكَبَهم في العِنادِ والتَّكْذِيبِ وسُوءِ البَيادِ والهَلاكِ. انْتَهى.
ولَمّا ابْتَدَأ سُبْحانَهُ بِما أوْجَبَهُ لِلرُّومِ مِنَ القَهْرِ بِتَبْدِيلِهِمْ، مُعَبِّرًا [عَنْهُمْ] بِأداةِ التَّأْنِيثِ مُناسَبَةَ لِسُفُولِهِمْ، أتْبَعَهُ ما صَنَعَهُ مَعَهم لِتَفْرِيجِ المُحْسِنِينَ مِن عِبادِهِ الَّذِينَ خَتَمَ بِهِمُ الأُمَمَ ونَسَخَ بِمِلَّتِهِمُ المِلَلَ، وأدالَهم عَلى جَمِيعِ الدُّوَلِ، فَقالَ مُعَبِّرًا بِما يَقْتَضِي الِاسْتِعْلاءَ مِن ضَمِيرِ الذُّكُورِ (p-٦)العُقَلاءِ: ﴿وهُمْ﴾ أيِ الرُّومَ، ودَلَّ عَلى التَّبْعِيضِ وقُرْبِ الزَّمانِ بِإثْباتِ الجارِ فَقالَ، مُعَبِّرًا بِالجارِ إشارَةً إلى أنَّ اسْتِعْلاءَهم إنَّما يَكُونُ في بَعْضِ زَمانِ البُعْدِ ولا يَدُومُ: ﴿مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِمْ مِن غَلَبَةِ فارِسَ إيّاهُمْ، وهو مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ فارِسًا، فَأكَّدَ وعْدَهُ بِالسِّينِ - وهو غَنِيٌّ عَنِ التَّأْكِيدِ - جَرْيًا عَلى مَناهِيجِ القَوْمِ لِما وقَعَ في ذَلِكَ مِن إنْكارِهِمْ
{"ayah":"فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق