الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ مِن بَيانِ ما أرادَ مِن كِتْمانِهِمْ لِلْحَقِّ مَعَ الإشارَةِ إلى بَعْضِ تَوابِعِهِ إلى أنْ خَتَمَ بِأنَّهم لا يَتَحاشَوْنَ مِنَ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ المُقْتَضِي لِلْكَذِبِ عَلى الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، لِأنَّهم لا عِلْمَ لَهم بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إلّا بِواسِطَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ومَهْما كانَ القَوْلُ كَذِبًا عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى اقْتَضى أنْ يَكُونَ تَعَبُّدًا لِلْمَنسُوبِ إلَيْهِ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِأنَّهُ هو الَّذِي شَرَعَهُ، وذَلِكَ مُوجِبٌ لِأنْ يُدَّعى أنَّ النَّبِيَّ دَعا إلى عِبادَتِهِ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وذَلِكَ بَعْدَ أنْ أوْضَحَ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن صِفاتِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (p-٤٦٧)المُقْتَضِيَةِ لِنَفْيِ الإلَهِيَّةِ عَنْهُ ما لا يَخْفى عَلى ذِي لُبٍّ شَرَعَ يُبَيِّنُ أنَّهم كاذِبُونَ فِيما يَدَّعُونَهُ في عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَنَفى أنْ يَكُونَ قالَ لَهم ذَلِكَ أوْ شَيْئًا مِنهُ عَلى وجْهٍ شامِلٍ لَهُ ولِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَتِهِ وبِسِياقٍ هو بِمُجَرَّدِهِ كافٍ في إبْطالِ قَوْلِهِمْ فَقالَ: ﴿ما كانَ﴾ أيْ صَحَّ ولا تُصُوِّرَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ﴿لِبَشَرٍ﴾ أيْ مِنَ البَشَرِ كائِنًا مَن كانَ مِن عِيسى وعُزَيْرٍ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ وغَيْرِهِما ﴿أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾ أيِ المُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ﴿الكِتابَ والحُكْمَ﴾ أيِ الحِكْمَةَ المُهَيِّئَةَ لِلْحُكَمِ، وهي العِلْمُ المُؤَيَّدُ بِالعَمَلِ والعَمَلُ المُتْقَنُ بِالعِلْمِ، لِأنَّ أصْلَها الإحْكامُ، وهو وضْعُ الشَّيْءِ في مَحَلِّهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ فَسادُهُ ﴿والنُّبُوَّةَ﴾ وهي الخَبَرُ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى المُقْتَضِي لِأتَمِّ الرِّفْعَةِ، يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ الأمْرَ الجَلِيلَ ويَنْصِبُهُ لِلدُّعاءِ إلى اخْتِصاصِهِ اللَّهَ بِالعِبادَةِ وتَرْكِ الأنْدادِ ﴿ثُمَّ﴾ يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأنْ ﴿يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي﴾ ولَمّا كانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ تَجَوُّزًا عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ والمُبادَرَةِ (p-٤٦٨)لِامْتِثالِ أمْرِهِ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى احْتَرَزَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيِ المُخْتَصِّ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ إذْ لا يَشُكُّ عاقِلٌ أنَّ مَن أُوتِيَ نُبُوَّةً وحِكْمَةً - وهو بَشَرٌ - في غايَةِ البُعْدِ عَنِ ادِّعاءِ مِثْلِ ذَلِكَ، لِأنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِن صِفاتِهِ - لا سِيَّما تَغَيُّرُ بَشْرَتِهِ الدّالَّةِ عَلى انْفِعالاتِهِ - مُسْتَقِلَّةٌ بِالإبْعادِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوى، فَلَمْ يَبْقَ لَهم مُسْتَنَدٌ، لا مِن جِهَةِ عَقْلٍ ولا مِن طَرِيقِ نَقْلٍ، فَصارَ قَوْلُ مِثْلِ ذَلِكَ مُنافِيًا لِلْحِكْمَةِ الَّتِي هو مُتَلَبِّسٌ بِها، فَصَحَّ قَطْعًا انْتِفاؤُهُ عَنْهُ. ولَمّا ذَكَرَ ما لا يَكُونُ لَهُ أتْبَعَهُ ما لَهُ فَقالَ: ﴿ولَكِنْ﴾ أيْ يَقُولُ ﴿كُونُوا رَبّانِيِّينَ﴾ أيْ تابِعِينَ طَرِيقَ الرَّبِّ مَنسُوبِينَ إلَيْهِ بِكَمالِ العِلْمِ المُزَيَّنِ بِالعَمَلِ، والألِفُ والنُّونُ زِيدَتا لِلْإيذانِ بِمُبالَغَتِهِمْ في المُتابَعَةِ ورُسُوخِهِمْ في العِلْمِ اللَّدُنِيِّ، فَإنَّ الرَّبّانِيَّ هو الشَّدِيدُ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وطاعَتِهِ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما لَمّا ماتَ: ماتَ رَبّانِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ﴾ أيْ بِسَبَبِ كَوْنِكم عالِمِينَ بِهِ مُعَلِّمِينَ لَهُ ﴿وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ فَإنَّ فائِدَةَ الدَّرْسِ العِلْمُ، وفائِدَةَ العِلْمِ العَمَلُ، ومِنهُ الحَثُّ عَلى الخَيْرِ والمُراقَبَةِ لِلْخالِقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب