الباحث القرآني

ولَمّا كانَ الأصْفِياءُ أخَصَّ مِن مُطْلَقِ الأحْبابِ بَيَّنَ بَعْضَ الأصْفِياءِ وما أكْرَمَهم بِهِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الشَّرِيفِ ”فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها“ تَنْبِيهًا لِوَفْدِ نَصارى نَجْرانَ وغَيْرِهِمْ عَلى أنَّهُ مِثْلَ ما اصْطَفى لِنَفْسِهِ دِينًا اصْطَفى لِلتَّخَلُّقِ بِهِ ناسًا يُحِبُّونَهُ ويُطِيعُونَهُ ويُوالُونَ أوْلِياءَهُ ويُعادُونَ أعْداءَهُ، ولَيْسُوا مِن صِفاتِ الكافِرِينَ في شَيْءٍ فَقالَ - أوْ يُقالُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا شَبَّهَ أفْعالَهُ في التَّشابُهِ وغَيْرِهِ بِأقْوالِهِ وعَرَّفَ أنَّ الطَّرِيقَ الأقْوَمَ رَدُّ المُتَشابِهِ مِنها إلى الواضِحِ المُحْكَمِ والِالتِجاءُ في كَشْفِ المُشْكِلِ إلَيْهِ مَعَ الِاعْتِقادِ الجازِمِ المُسْتَقِيمِ، وبَيَّنَ أنَّ المُوقِفَ عَنْ هَذا الطَّرِيقِ الأقْوَمِ الوُقُوفُ مَعَ العَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ مَعَ الرِّئاسَةِ وغَيْرِها وألْفُ الدِّينِ مَعَ التَّعَلُّلِ فِيهِ (p-٣٤١)بِالتَّمَنِّي الفارِغِ، وأنْهى ذَلِكَ وتَوابِعَهُ إلى أنْ خَتَمَ بِتَهْدِيدِ مَن تَوَلّى عَنِ الحَقِّ أخَذَ في تَصْوِيرِ تَصْوِيرِهِ في الأرْحامِ كَيْفَ شاءَ بِما شُوهِدَ مِن ذَلِكَ ولَمْ يَشُكَّ فِيهِ مِن أحْوالٍ أُناسٌ هم مِن خُلَّصِ عِبادِهِ المُقْبِلِينَ عَلى ما يُرْضِيهِ فَقالَ: أوْ يُقالُ ولَعَلَّهُ أحْسَنُ: ولَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ أهْلَ الكِتابِ ما اخْتَلَفُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ، وألْحَقَ بِهِ ما تَبِعَهُ إلى أنْ خَتَمَ بِالأمْرِ بِاتِّباعِ الرَّسُولِ وبِأنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ بِالتَّوَلِّي عَنْ رُسُلِهِ اشْتَدَّ تَشَوُّفُ النَّفْسِ إلى مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ الآتِينَ بِالعِلْمِ الَّذِينَ تُوجِبُ مُخالَفَتُهُمُ الكُفْرَ فَبَيَّنَهم بِقَوْلِهِ: وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا كانَ مَنزِلُ هَذِهِ السُّورَةِ لِإظْهارِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ في الخَلْقِ والأمْرِ قَدَّمَ سُبْحانَهُ وتَعالى بَيْنَ يَدَيْ إبانَةِ مُتَشابِهِ خَلْقِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وجْهَ الِاصْطِفاءِ المُتَقَدِّمَ لِلْآدَمِيَّةِ ومَن مِنها مِنَ الذُّرِّيَّةِ لِتَظْهَرَ مُعادَلَةُ خَلْقِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آخِرًا لِمُتَقَدِّمِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلًا، حَتّى يَكُونا مَثَلَيْنِ مُحِيطَيْنِ بِطَرَفَيِ الكَوْنِ في عُلُوِّ رُوحِهِ ودُنُوِّ أدِيمِ تُرْبَتِهِ وأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى نَزَّلَ (p-٣٤٢)الرُّوحَ إلى الخَلْقِ الآدَمِيِّ كَما قالَ ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلا ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] وظَهَرَ أثَرُ ذَلِكَ اللَّبْسِ بِما وقَعَ لِأهْلِ الزَّيْغِ في عِيسى كَما أنَّهُ رَقّى الخَلْقَ الطِّينِيَّ رُتْبَةً رُتْبَةً إلى كَمالِ التَّسْوِيَةِ إلى أنْ نَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، فَكانَ تَرَقِّي الآدَمِيِّ إلى النَّفْخَةِ لِتَنْزِلَ الرُّوحُ إلى الطِّينَةِ الإنْسانِيَّةِ الَّتِي تَمَّ بِها وُجُودُ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَما كَمَّلَ وُجُودَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالنَّفْخَةِ. ولَمّا كانَ أصْلُ الإبْداءِ نُورًا عَلِيًّا نَزَّلَهُ الحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى في رُتَبِ التَّطْوِيرِ والتَّصْيِيرِ والجَعْلِ إلى أنْ بَدَأ عالَمًا دُنْياوِيًّا مُحْتَوِيًا عَلى الأرْكانِ الأرْبَعَةِ والمَوالِيدِ الثَّلاثَةِ، وخَفِيَتْ نُورانِيَّتُهُ في مَوْجُودِ أصْنافِهِ صَفّى اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن وُجُودِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ هَذا الخَلْقَ الآدَمِيَّ فَكانَ صَفِيَّ اللَّهِ، فَأنْبَأ الخِطابُ عَنْ تَصْيِيرِهِ إلى الصَّفاءِ بِالِافْتِعالِ؛ انْتَهى - فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيْ بِجَلالِهِ وعَظَمَتِهِ وكَمالِهِ في إحاطَتِهِ وقُدْرَتِهِ ﴿اصْطَفى﴾ أيْ لِلْعِلْمِ والرِّسالَةِ عَنْهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى خَلْقِهِ والخِلافَةِ لَهُ في مُلْكِهِ ﴿آدَمَ﴾ أباكُمُ الأوَّلَ الَّذِي لا تَشُكُّونَ في أنَّهُ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ، وهو تَنْبِيهٌ لِمَن غَلِطَ في أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أنَّ أعْظَمَ ما اسْتَغْرَبُوا مِن عِيسى كَوْنُهُ مِن (p-٣٤٣)غَيْرِ ذَكَرٍ، وآدَمُ أغْرَبُ حالًا مِنهُ بِأنَّهُ لَيْسَ مِن ذَكَرٍ ولا أُنْثى ولا مِن جِنْسِ الأحْياءِ - كَما سَيَأْتِي ذَلِكَ صَرِيحًا بَعْدَ هَذا التَّلْوِيحِ لِذِي الفَهْمِ الصَّحِيحِ. قالَ الحَرالِّيُّ: فاصْطَفاهُ مِن كُلِّيَّةِ مَخْلُوقِهِ الَّذِي أبْداهُ مُلْكًا ومَلَكُوتًا خَلْقًا وأمْرًا، وأجْرى اسْمَهُ مِن أظْهَرِ ظاهِرِهِ الأرْضِيِّ وأدْنى أدْناهُ، فَسَمّاهُ آدَمَ مِن أدِيمِ الأرْضِ، عَلى صِيغَةِ أفْعَلُ، الَّتِي هي نِهايَةُ كَمالِ الآدَمِيَّةِ والأدِيمِيَّةِ. فَكانَ مِمّا أظْهَرَ تَعالى في اصْطِفاءِآدَمَ ما ذَكَرَ جَوامِعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: لَمّا خَلَقَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أبانَ فَضْلَهُ لِلْمَلائِكَةِ وأراهم ما اخْتَصَّهُ بِهِ مِن سابِقِ العِلْمِ مِن حَيْثُ عَلَّمَهُ عِنْدَ اسْتِنْبائِهِ إيّاهُ أسْماءَ الأشْياءِ فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى آدَمَ مِحْرابًا وكَعْبَةً وبابًا وقِبْلَةً، أسْجَدَ لَهُ الأبْرارَ والرُّوحانِيِّينَ الأنْوارَ، ثُمَّ نَبَّهَ آدَمَ عَلى مُسْتَوْدَعِهِ وكَشَفَ لَهُ خَطَرَ ما ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ أنْ سَمّاهُ عِنْدَ المَلائِكَةِ إمامًا، فَكانَ تَنْبِيهُهُ عَلى خَطَرِ أمانَتِهِ ثَمَرَةَ اصْطِفائِهِ - انْتَهى ﴿ونُوحًا﴾ أباكُمُ الثّانِيَ الَّذِي أخْرَجَهُ مِن بَيْنِ أبَوَيْنِ شابَّيْنِ عَلى عادَتِكُمُ المُسْتَمِرَّةِ فِيكم. وقالَ الحَرالِّيُّ: أنْبَأ تَعالى أنَّهُ عَطَفَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اصْطِفاءً عَلى اصْطِفاءِ آدَمَ تَرَقِّيًا إلى كَمالِ الوُجُودِ الآدَمِيِّ وتَعالِيًا إلى الوُجُودِ الرُّوحِيِّ العِيسَوِيِّ، فاصْطَفى نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (p-٣٤٤)بِما جَعَلَهُ أوَّلَ رَسُولٍ بِتَوْحِيدِهِ مِن حَيْثُ دَحَضَ الشِّرْكَ وأقامَ كَلِمَةَ الإيمانِ بِقَوْلِ ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“، لِما تَقَدَّمَ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ والأوْثانِ، فَكانَ هَذا الِاصْطِفاءُ اصْطِفاءً باطِنًا لِذَلِكَ الِاصْطِفاءِ الظّاهِرِ فَتَأكَّدَ الِاصْطِفاءُ وجَرى مَن أهْلَكَتْهُ طامَّةُ الطُّوفانِ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الذَّرِّ الآدَمِيِّ مَجْرى تَخْلِيصِ الصَّفاواتِ مِن خَثارَتِها، وكَما صَفّى آدَمَ مِنَ الكَوْنِ كُلِّهِ صَفّى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ ووَلَدَهُ النّاجِينَ مَعَهُ مِن مَطْرَحِ الخَلْقِ الآدَمِيِّ الكافِرِينَ الَّذِينَ لا يَلِدُونَ إلّا فاجِرًا كَفّارًا، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ولا في مُسْتَوْدَعِ ذَرارِيهِمْ صَفاوَةٌ تَصْلُحُ لِمَزِيَّةِ الإخْلاصِ الَّذِي اخْتُصَّ بِصَفْوَتِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧] فَكانَ مِيثاقُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ما قامَ بِهِ مِن كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ورَفْضِ الأصْنامِ والطّاغُوتِ الَّتِي اتَّخَذَها الظَّلْمانِيُّونَ مِن ذَرِّ آدَمَ، فَتَصَفّى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ النُّورانِيُّونَ مِنهُ، فَكانَ نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَن نَجا مَعَهُ صَفْوَةَ زَمانِهِ، كَما كانَ آدَمُ صَفْوَةَ حِينِهِ - انْتَهى. (p-٣٤٥)ولَمّا كانَ أكْثَرُ الأنْبِياءِ مِن نَسْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ زادَ في تَعْظِيمِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وآلَ إبْراهِيمَ﴾ أيِ الَّذِينَ أوْجَدَ فِيهِمُ الخَوارِقَ ولا سِيَّما في إخْراجِ الوَلَدِ مِن بَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لا يُولَدُ لِمِثْلِهِما، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِثْلُهم لِأنَّهُ أحَدُهُمْ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿وآلَ عِمْرانَ﴾ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى العالَمِينَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ كَسائِرِ أقارِبِهِ مِنهُمْ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب