الباحث القرآني

ولَمّا فَطَمَهم سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ مُوالاةِ الكُفّارِ ظاهِرًا وباطِنًا بِما اقْتَضى القَصْرَ عَلى مُوالاةِ أهْلِ اللَّهِ لِنَفْيِهِ مِن تَوَلِّي الكُفْرِ عَنْ أنْ يَكُونَ في شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، وكانَ الإنْسانُ رُبَّما والى الكافِرَ وهو يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وخَتَمَ بِرَأْفَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِعِبادِهِ، وكانَتِ الرَّأْفَةُ قَدْ تَكُونُ عَنِ المَحَبَّةِ المُوجِبَةِ لِلْقُرْبِ، فَكانَ الإخْبارُ بِها رُبَّما دَعا إلى الِاتِّكالِ، ووَقَعَ لِأجْلِهِ الِاشْتِباهُ في الحِزْبَيْنِ، جَعَلَ لِذَلِكَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلامَةً فَقالَ: - وقالالحَرالِّيُّ: لَمّا كانَ أعْظَمُ ما يَتَرامى إلَيْهِ مَقاماتُ السّالِكِينَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى القاصِدِينَ إلَيْهِ مِن مَبْدَإ حالِ الذِّكْرِ الَّذِي هو مُنْتَهى المَقاماتِ العَشْرِ المُتَرَتِّبَةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ﴾ [الأحزاب: ٣٥] مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِما أنَّ المَحَبَّةَ وصْلَةٌ خَفِيَّةٌ يَعْرِفُ الحاسُّ بِها كُنْهَها، أقامَ سُبْحانَهُ وتَعالى الحُجَّةَ عَلى المُتَرامِينَ لِدَعْوى القُرْبِ مِنَ اللَّهِ والِادِّعاءِ في أصْلِ ما يَصِلُ إلَيْهِ القَوْلُ مِن مَحَبَّتِهِ بِما (p-٣٣٣)أنْبَأهم أنَّ مَنِ انْتَهى إلى أنْ يُحِبَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى فَلْيَتَّبِعْ هَذا النَّبِيَّ الَّذِي أحَبَّهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَمَنِ اتَّبَعَهُ أحَبَّهُ اللَّهُ، فَقامَتْ بِذَلِكَ الحُجَّةُ عَلى كُلِّ قاصِدٍ وسالِكٍ ومُتَقَرِّبٍ، فَإنَّ نِهايَةَ الخَلْقِ أنْ يُحِبُّوا اللَّهَ، وعِنايَةَ الحَقِّ أنْ يُحِبَّ العَبْدَ، فَرَدَّ سُبْحانَهُ وتَعالى جَمِيعَ مَن أحاطَ بِهِ الِاصْطِفاءُ والِاجْتِباءُ والِاخْتِصاصُ، ووَجَّهَهم إلى وُجْهَةِ الِاتِّباعِ لِحَبِيبِهِ الَّذِي أحَبَّهُ، كَما قالَ ﷺ ”لَوْ أنَّ مُوسى بَيْنَ أظْهُرِكم ما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي“ وإذا كانَ ذَلِكَ في مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ في المُنْتَحِلِينَ لِمِلَّتِهِ ألْزَمَ بِما هم مُتَّبِعُونَ لِمُتَّبَعِهِ عِنْدَهُمْ، وأصْلُ ذَلِكَ أنَّهُ ﷺ لَمّا كانَ المَبْدَأ في الأبَدِ وجَبَ أنْ يَكُونَ النِّهايَةَ في المَعادِ، فَألْزَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى الخَلِيقَةِ مِمَّنْ أحَبَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنْ يَتَّبِعُوهُ، وأجْرى ذَلِكَ عَلى لِسانٍ إشْعارًا بِما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ والوُصُولِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن حَيْثُ إنَّهُ نَبِيُّ البُشْرى، ولِيَكُونَ ذَلِكَ أكْظَمَ لِمَن أبى اتِّباعَهُ - انْتَهى، فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى -: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ أيِ المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ مُخْلِصِينَ في حُبِّهِ لِاعْتِقادِ أنَّهُ عَلى غايَةِ الكَمالِ، فَإنَّ الكَمالَ مَحْبُوبٌ لِذاتِهِ (p-٣٣٤)﴿فاتَّبِعُونِي﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: قَدْ فَسَّرَ ﷺ ظاهِرَ اتِّباعِهِ فَقالَ ”فِي البِرِّ“ وأصْلُ حَقِيقَتِهِ الإيمانُ بِاللَّهِ والإيثارُ لِعِبادِهِ، والتَّقْوى وهي مِلاكُ الأمْرِ وأصْلُ الخَيْرِ، وهي اطِّراحُ اسْتِغْناءِ العَبْدِ بِشَيْءٍ مِن شَأْنِهِ، لا مِن مِلْكٍ ولا مِن مُلْكٍ ولا مِن فِعْلٍ ولا مِن وصْفٍ ولا مِن ذاتٍ حَتّى يَكُونَ عِنْدَهُ كَما هو عِنْدَ رَبِّهِ في أزَلِهِ قَبْلَ أنْ يَكُونَ مَوْجُودًا لِنَفْسِهِ لِيَكُونَ أمْرُهُ كُلُّهُ بِرَبِّهِ في وُجُودِهِ كَما كانَ أمْرُهُ بِرَبِّهِ قَبْلَ وُجُودِهِ لِنَفْسِهِ، وقَدْ فُسِّرَ حَقُّ التُّقاةِ الَّتِي هي غايَةُ التَّقْوى بِأنْ يَكُونَ العَبْدُ يَشْكُرُ فَلا يَكْفُرُ، ويَذْكُرُ فَلا يَنْسى، ويُطِيعُ فَلا يَعْصِي. انْتَهى. قالَ الإمامُ: المَحَبَّةُ تُوجِبُ الإقْبالَ بِالكُلِّيَّةِ عَلى المَحْبُوبِ والإعْراضَ عَنْ غَيْرِهِ. انْتَهى. فَمَنِ ادَّعى مَحَبَّتَهُ وخالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهو كَذّابٌ، وكِتابُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى يُكَذِّبُهُ ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلى حُبًّا ظَهَرَتْ أماراتُهُ بِما أعْلَمَ بِهِ الفَكُّ، فَإنَّ الأمْرَ المُنَجِّيَ غايَةَ النَّجاةِ إنَّما هو مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِلْعَبْدِ، لا مَحَبَّةُ العَبْدِ لِلَّهِ، فَإنَّهُ رُبَّما كانَتْ لَهُ حالَةٌ (p-٣٣٥)يَظُنُّ بِها أنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ والواقِعُ أنَّهُ لَيْسَ كَما ظَنَّ لِكَوْنِهِ يَعْمَلُ بِما يُسْخِطُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، والأمارَةُ الصَّحِيحَةُ لِذَلِكَ رَدُّ الأمْرِ كُلِّهِ إلى اللَّهِ، وحِينَئِذٍ يَفْعَلُ اللَّهُ مَعَ العَبْدِ فِعْلَ المُحِبِّ مِن حُسْنِ الثَّناءِ والإكْرامِ بِالثَّوابِ. قالَ الحَرالِّيُّ: فَإنَّ مَن رَدَّ الأمانَةَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى أحَبَّهُ اللَّهُ فَكانَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ويَدَهُ ورِجْلَهُ، وإذا أحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أراحَهُ وأنْقَذَهُ مِن مَنالِهِ في أنْ يَكُونَ هو يُحِبُّ اللَّهَ، فَمَن أحَبَّ اللَّهَ ولِهَ، ومَن أحَبَّهُ اللَّهُ سَكَنَ في ابْتِداءِ عِنايَتِهِ وثَبَّتَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. انْتَهى. فَقَدْ أشارَ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى أنَّ الدَّلالَةَ النّاشِئَةَ عَنِ الرَّأْفَةِ مِنَ الإكْرامِ بِالنِّعَمِ مِنَ الهِدايَةِ بِالبَيانِ والإبْلاغِ في الإحْسانِ عامَّةٌ لِلْمَحْبُوبِ وغَيْرِهِ، وأنَّ الدَّلِيلَ عَلى المَحَبَّةِ الإلَهِيَّةِ هو الِاتِّباعُ الدّاعِي «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ فَأمّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، وأمّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ» «ما تَقَرَّبَ المُتَقَرِّبُونَ إلَيَّ بِمِثْلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِمْ، ولا يَزالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ» . ولَمّا كانَ الدِّينُ شَدِيدًا لَنْ يُشادَّهُ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ، لِما عَلَيْهِ العَبْدُ مِنَ العَجْزِ والمَعْبُودُ مِن عَظِيمِ الأمْرِ أتْبَعَ ذَلِكَ الإعْلامَ بِأنَّهُ مَعَ (p-٣٣٦)إيصالِ الثَّوابِ يَرْفَعُ العِقابَ فَقالَ - وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ مِن آيَةِ حُبِّ اللَّهِ لَهُ ﷺ ما أنْزَلَ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١] ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] أجْرى لِمَن أحَبَّهُ اللَّهُ بِاتِّباعِهِ حَظًّا مِنهُ في قَوْلِهِ -: ﴿ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ أيْ مُطْلَقًا، وذَنْبَ كُلِّ عَبْدٍ بِحَسَبِهِ، لِأنَّ أصْلَ مَعْنى الذَّنْبِ أدْنى مَقامِ العَبْدِ، فَكُلُّ ذِي مَقامٍ أعْلاهُ حَسَنَتُهُ وأدْناهُ ذَنْبُهُ، ولِذَلِكَ في كُلِّ مَقامٍ تَوْبَةٌ، حَتّى تَقَعَ التَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ فَيَكْمُلَ الوُجُودُ والشُّهُودُ. ولَمّا كانَ هَذا الأمْرُ مِن أخَصِّ ما يَقَعُ، وكانَ مِمّا دُونَهُ مَقاماتُ خَواصِّ الخَلْقِ فِيما بَيْنَ إسْلامِهِمْ إلى مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى خَتَمَ تَعالى بِما يُفْهِمُ أحْوالَ ما يَرْجِعُ إلى مَن دُونَ هَذا الكَمالِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ لِمَن لَمْ يَنْتَهِ لِرُتْبَةِ حُبِّ اللَّهِ لَهُ بِما يَقَعُ في أثْناءِ أحْوالِهِ مِن مُوجِبِ المَغْفِرَةِ واسْتِدْعاءِ الرَّحْمَةِ حَيْثُ لَمْ يَصِلْ إلى المَحَبَّةِ، فَمَرْحُومٌ بَعْدَ مَغْفِرَةٍ وهو القاصِدُ، ومَغْفُورٌ بَعْدَ مَحَبَّةٍ وهو الواصِلُ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب