الباحث القرآني

ولَمّا تَمَّ الوَصْفُ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِن سَطَواتِهِ ذَكَرَ يَوْمَ المَصِيرِ المُحَذَّرَ مِنهُ، المُحْصى فِيهِ كُلُّ كَبِيرٍ وصَغِيرٍ، المُعامَلَ فِيهِ كُلُّ عامِلٍ بِما يَلِيقُ بِهِ، الَّذِي يَتِمُّ فِيهِ انْكِشافُ الأوْصافِ لِكُلِّ ذَكِيٍّ وغَبِيٍّ فَقالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ﴾ وهو مَعْمُولٌ لِعامِلٍ مِن مَعْنى ”يُحَذِّرُ“ ﴿تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ والَّذِي يُرْشِدُ إلى تَعْيِينِ تَقْدِيرِ هَذا العامِلِ - إذا جُعِلَ العامِلُ مُقَدَّرًا - قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ سابِقًا لَها ولاحِقًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ”يَوْمٍ“ في قَوْلِهِ ﴿لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٢٥] وتَكُونَ فَتْحَتُهُ لِلْبِناءِ لِإضافَتِهِ إلى الجُمْلَةِ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ، والمُرادُ بِالنَّفْسِ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - المُكَلَّفَةُ ﴿ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ أيْ لا نَقْصَ فِيهِ ولا زِيادَةَ، بِأمْرِ القاهِرِ القادِرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ حاضِرًا مُلازِمًا، فَما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ (p-٣٣٠)تَوَدُّ أنَّها لا تُفارِقُهُ ولا يَنْقُصُ مِنهُ شَيْءٌ [ وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ ] أيْ تُحِبُّ حُبًّا شَدِيدًا ﴿لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ﴾ أيْ ذَلِكَ العَمَلِ السُّوءِ ﴿أمَدًا﴾ أيْ زَمانًا. قالَ الحَرالِّيُّ: وأصْلُهُ مِقْدارُ ما يَسْتَوْفِي جُهْدَ الفَرَسِ مِنَ الجَرْيِ، فَهو مِقْدارُ ما يَسْتَوْفِي ظُهُورَ ما في التَّقْدِيرِ إلى وفاءِ كِيانِهِ ﴿بَعِيدًا﴾ مِنَ البُعْدِ، وهو مُنْقَطَعُ الوَصْلَةِ في حِسٍّ أوْ مَعْنىً. انْتَهى. فالآيَةُ مِنَ الاحْتِباكِ: ذَكَرَ إحْضارَ الخَيْرِ دَلالَةً عَلى حُضُورِ السُّوءِ، ووَدَّ بَعْدَ السُّوءِ دَلالَةً عَلى ودِّ لُزُومِ الخَيْرِ. ولَمّا ذَكَرَ هَوْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ كانَ كَأنَّهُ قالَ: فاتَّقُوهُ فَإنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُكُمُوهُ ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ الَّتِي لا يُحاطُ بِها ﴿نَفْسَهُ﴾ فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ تَعَدّى طَوْرَهُ ونَسِيَ أنَّهُ عَبْدٌ، قالَ الحَرالِّيُّ: أنْ تَكُونَ لَكم أنْفُسٌ فَتَجِدَ ما عَمِلَتْ، ويُلْزِمَها وطْأةَ هَذِهِ المُؤاخَذَةِ، بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَبْرَأ العَبْدُ مِن نَفْسِهِ تَبْرِئَتَهُ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ إرادَةٌ، وأنْ يُلاحِظَ عِلْمَ اللَّهِ وقُدْرَتَهَ في كُلِّيَّةِ ظاهِرِهِ وباطِنِهِ وظاهِرِ الكَوْنِ وباطِنِهِ. انْتَهى. ولَمّا كانَ تَكْرِيرُ التَّحْذِيرِ قَدْ يُنَفِّرُ بَيَّنَ أنَّ تَحْذِيرَهُ لِلِاسْتِعْطافِ، (p-٣٣١)فَإنَّهُ بِنَصْبِ الأدِلَّةِ وبَعْثِ الدُّعاةِ والتَّرْغِيبِ في الطّاعَةِ والتَّرْهِيبِ مِنَ المَعْصِيَةِ المُسَبَّبِ عَنْهُ سَعادَةُ الدّارَيْنِ، فَهو مِن رَأْفَتِهِ بِالمُحَذَّرِينَ فَقالَ بانِيًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: ويَعِدُكُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَضْلَهُ ويُبَشِّرُكم بِهِ لِرَأْفَتِهِ بِكُمْ: ﴿واللَّهُ﴾ أيْ والحالُ أنَّ الَّذِي لَهُ وحْدَهُ الجَلالُ والإكْرامُ ﴿رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فَكانَ هَذا التَّحْذِيرُ الخاتِمُ ابْتِدائِيًّا، والتَّحْذِيرُ السّابِقُ انْتِهائِيًّا، فَكانَ هَذا رَأْفَةً سابِقَةً، وكانَ الأوَّلُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلى الفِعْلِ تَحْذِيرًا لاحِقًا مُتَّصِلًا بِالمَصِيرِ إلى اللَّهِ، وهَذا الخاتِمُ مُبْتَدَأً بِالرَّأْفَةِ مِنَ اللَّهِ. والرَّأْفَةُ - يَقُولُ أهْلُ المَعانِي - هي أرَقُّ الرَّحْمَةِ، والَّذِي يُفْصِحُ عَنِ المَعْنى - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - أنَّها عَطْفُ العاطِفِ عَلى مَن يَجِدُ عِنْدَهُ مِنهُ وصْلَةً، فَهي رَحْمَةُ ذِي الصِّلَةِ بِالرّاحِمِ، فَمَن تَحَقَّقَ أنَّ الأمْرَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وجَدَ رِفْقَهُ وفَضْلَهُ ورَحْمَتَهُ عَلَيْهِ لِما بَرِئَ مِن دَعْوى شَيْءٍ مِن نِسْبَةِ الخَيْرِ إلى نَفْسِهِ، فَأحَبَّهُ لِذَلِكَ، قِيلَ لِأعْرابِيٍّ: إنَّكَ تَمُوتُ وتُبْعَثُ وتَرْجِعُ إلى اللَّهِ؟ فَقالَ: أتُهَدِّدُونَنِي بِمَن لَمْ أرَ الخَيْرَ قَطُّ إلّا مِنهُ فَلِذَلِكَ إذا تَحَقَّقَ العَبْدُ ذَلِكَ مِن رَبِّهِ أحَبَّهُ بِما وحَّدَهُ وبِما وجَدَهُ (p-٣٣٢)فِي العاجِلَةِ فَحَماهُ أنْ يَجِدَ عَمَلَ نَفْسِهِ في الآجِلَةِ. انْتَهى. وقَدْ عُلِمَ أنَّ الآيَةَ مِنَ الاحْتِباكِ: التَّحْذِيرُ أوَّلًا دالٌّ عَلى الوَعْدِ بِالخَيْرِ ثانِيًا، والرَّأْفَةُ ثانِيًا دالَّةٌ عَلى الِانْتِقامِ أوَّلًا - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب