الباحث القرآني

ولَمّا بانَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنْ لا شَيْءَ في يَدِ غَيْرِهِ، واقْتَضى ذَلِكَ قَصْرَ الهِمَمِ عَلَيْهِ، وكانَ نَصارى نَجْرانَ إنَّما دامُوا عَلى مُوالاةِ مُلُوكِ الرُّومِ لِمَحْضِ الدُّنْيا مَعَ العِلْمِ بِبُطْلانِ ما هم عَلَيْهِ حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ مِن مُداناةِ مِثْلِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ كَما وقَعَ لِحاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِمّا قَصَّ في سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا تَجْتَمِعُ (p-٣٢٣)مُوالاةُ المُؤْمِنِينَ ومُوالاةُ الكافِرِينَ في قَلْبٍ إلّا أوْشَكَتْ إحْداهُما أنْ تَغْلِبَ عَلى الأُخْرى فَتَنْزِعَها، فَقالَ تَعالى مُنَبِّهًا عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ سائِقًا مَساقَ النَّتِيجَةِ لِما قَبْلَهُ - وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ مَضْمُونُ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بُشْرى لِخُصُوصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وعُمُومِها بِالعِزِّ والمُلْكِ وخَتْمِ الرِّزْقِ الَّذِي لا حِسابَ فِيهِ كانَ مِنَ الحَقِّ أنْ تَظْهَرَ عَلى المُبَشَّرِينَ عِزَّةُ البُشْرى فَلا يَتَوَلَّوْا غَيْرَهُ، ولَمّا قَبَضَ ما بِأيْدِي الخَلْقِ إلَيْهِ في إيتاءِ المُلْكِ ونَزْعِهِ والإعْزازِ والإذْلالِ، وأظْهَرَ إحاطَةَ قُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وإقامَةَ امْتِحانِهِ بِما أوْلَجَ وأخْرَجَ، وأنْبَأ عَنْ إطْلاقِ حَدِّ العَدِّ عَنْ أرْزاقِهِ فَسَدَّ عَلى النَّفْسِ الأبْوابَ الَّتِي مِنها تَتَوَهَّمُ الحاجَةَ إلى الخَلْقِ؛ نَهى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانَتْ لَهم عادَةٌ بِمُباطَنَةِ بَعْضِ كَفَرَةِ أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ومَن شَمِلَهُ وصْفُ الكُفْرِ أنْ يَجْرُوا عَلى عادَتِهِمْ في مُوالاتِهِمْ ومُصافاتِهِمْ والحَدِيثِ مَعَهُمْ، لِأنَّ المُؤْمِنِينَ يُفاوِضُونَهم بِصَفاءٍ، والكافِرُونَ يَتَسَمَّعُونَ ويَأْخُذُونَ مِنهم بِدَغَلٍ ونِفاقٍ عَلَيْهِمْ كَما قالَ تَعالى ﴿ها أنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهم ولا يُحِبُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٩] فَنَهاهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا غابَ عَنْهم خِبْرَتُهُ وطَيَّتُهُ فَقالَ تَعالى: (p-٣٢٤)﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ﴾ أيِ الرّاسِخُونَ في الإيمانِ وعَبَّرَ في أضْدادِهِمْ بِالوَصْفِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ ذَلِكَ في كُلِّ مَن تَلَبَّسَ بِكُفْرٍ في وقْتٍ ما فَقالَ:﴿الكافِرِينَ أوْلِياءَ﴾ ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ عَلى أنَّ وِلايَةَ أوْلِيائِهِ مِن وِلايَتِهِ، وأنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ إنَّما هو الوِلايَةُ الَّتِي قَدْ تُوهِنُ الرُّكُونَ إلى المُؤْمِنِينَ لِأنَّ في ذَلِكَ - كَما قالَ الحَرالِّيُّ - تَبْعِيدَ القَرِيبِ وتَقْرِيبَ البَعِيدِ، والمُؤْمِنُ أوْلى بِالمُؤْمِنِ كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» فَأقْواهم لَهُ رُكْنٌ، وضَعِيفُهم مُسْتَنِدٌ لِذَلِكَ الرُّكْنِ القَوِيِّ، فَإذا والاهُ قَوِيَ بِهِ مِمّا يُباطِنُهُ ويُصافِيهِ، وإذا اتَّخَذَ الكافِرَ ولِيًّا مِن دُونِ مُؤْمِنِهِ القَوِيِّ رُبَّما تَداعى ضَعْفُهُ في إيمانِهِمْ إلى ما يُنازِعُهُ فِيهِ مِن مُلابَسَةِ أحْوالِ الكافِرِينَ، كَما أنَّهم لَمّا أصاخُوا إلَيْهِمْ إصاخَةً أوْقَعُوا بَيْنَهم سِبابَ الجاهِلِيَّةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إيمانِكم كافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] وكَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكم عَلى أعْقابِكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٩] ولَمْ يَمْنَعْ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن صِلَةِ أرْحامِ مَن لَهم مِنَ الكافِرِينَ، ولا مِن خِلْطَتِهِمْ في أمْرِ الدُّنْيا فِيما يَجْرِي مَجْرى المُعامَلَةِ مِنَ البَيْعِ والشَّرْيِ (p-٣٢٥)والأخْذِ والعَطاءِ وغَيْرِ ذَلِكَ لِيُوالُوا في الدِّينِ أهْلَ الدِّينِ، ولا يَضُرُّهم أنْ يُبارُوا مَن لَمْ يُحارِبْهم مِنَ الكافِرِينَ. انْتَهى. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَمَن تَوَلّاهم وُكِلَ إلَيْهِمْ وكانَ في عِدادِهِمْ، لِأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرّاسِخِينَ في صِفَةِ الإيمانِ عَطَفَ عَلَيْهِ تَرْهِيبًا لِمَن قَدْ تَتَقاصَرُ هِمَّتُهُ فَيَرْضى بِمَنزِلَةِ ما دُونَ الرُّسُوخِ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أيْ هَذا الأمْرَ البَعِيدَ مِن أفْعالِ ذَوِي الهِمَمِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ في عِدادِ الأعْداءِ بَعْدَ هَذا البَيانِ ومَعَ رَفْعِ هَذا الحِجابِ الَّذِي كانَ مَسْدُولًا عَلى أكْثَرِ الخَلْقِ ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ فَلا كُفْؤَ لَهُ ﴿فِي شَيْءٍ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فَفي إفْهامِهِ أنَّ مَن تَمَسَّكَ بِوِلايَةِ المُؤْمِنِينَ فَهو مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ بِما هو مُتَمَسِّكٌ بِعِنانِ مَن هو لَهُ وسِيلَةٌ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الَّذِينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ. انْتَهى. ولَمّا كانَ مِنَ النّاسِ القَوِيُّ والضَّعِيفُ والشَّدِيدُ واللَّيِّنُ نَظَرَ إلى أهْلِ الضَّعْفِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَوَسَّعَ لَهم بِقَوْلِهِ: ﴿إلا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ أيْ إلّا أنْ تَخافُوا مِنهم أمْرًا خَطِرًا مَجْزُومًا بِهِ، لا كَما خافَهُ نَصارى نَجْرانَ وتَوَهَّمَهُ حاطِبٌ، فَحِينَئِذٍ يُباحُ إظْهارُ المُوالاةِ (p-٣٢٦)وإنْ كانَتْ دَرَجَةَ مَن تَصَلَّبَ في مُكاشَرَتِهِمْ وتَعَزَّزَ لِمُكابَرَتِهِمْ ومُكاثَرَتِهِمْ، وإنْ قَطَعَ أعْظَمُ فَإيّاكم أنْ تَرْكَنُوا إلَيْهِمْ! فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُحَذِّرُكم إقْبالَكم عَلى عَدُوِّهِ، فَإنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِإعْراضِهِ عَنْكم ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ ﴿نَفْسَهُ﴾ فَإنَّهُ عالِمٌ بِما تَفْعَلُونَهُ. وهو الحَكَمُ في الدُّنْيا كَما تَرَوْنَ مِن إذْلالِهِ العَزِيزَ وإعْزازِهِ الذَّلِيلَ، وهَذا المُحَذَّرُ مِنهُ وهو نَفْسُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى - كَما قالَ الحَرالِّيُّ - مَجْمُوعُ أسْماءِ تَعالِيهِ المُقابَلَةِ بِأسْماءِ أوْصافِهِمُ الَّتِي مَجْمُوعُها أنْفُسُهم. ومَوْجُودُ النَّفْسِ ما تَنَفَّسَ، وإنْ كانَتْ أنْفُسُ الخَلْقِ تَنَفَّسُ عَلى ما دُونَها إلى حَدِّ مُسْتَطاعِها، فَكانَ ما حَذَّرَهُ اللَّهُ مِن نَفْسِهِ أوْلى وأحَقَّ بِالنَّفاسَةِ في تَعالِي أوْصافِهِ وأسْمائِهِ أنْ تُنَفَّسَ عَلى مَن يُغْنِيهِ فَلا يَسْتَغْنِي، ويَكْفِيهِ فَلا يَكْتَفِي ويُرِيهِ مَصارِفَ سَدِّ خَلّاتِهِ وحاجاتِهِ فَلا يَنْصَرِفُ إلَيْها ولا يَتَوَجَّهُ نَحْوَها، فَهو سُبْحانُهُ وتَعالى يُعَذِّبُ مَن تَعَرَّفَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ أشَدَّ مِن عَذابِ مَن يَتَعَرَّفُ لَهُ بِآياتِهِ فَلا يَعْتَبِرُ بِها، بِما أنَّ كُلَّ ما أبْداهُ مِن نَفْسِهِ بِلا واسِطَةٍ فَهو أعْظَمُ مِمّا أبْداهُ بِالواسِطَةِ مِن نَعِيمٍ وعَذابٍ، فَلا أعْظَمَ مِن نَعِيمِ مَن تَعَرَّفَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَعَرَفَهُ، ولا أشَدَّ مِن عَذابِ مَن تَعَرَّفَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَأنْكَرَهُ - انْتَهى. (p-٣٢٧)ولَمّا كانَتْ مَصائِبُ الدُّنْيا قَدْ تُسْتَهانُ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى عاطِفًا عَلى نَحْوِ ما تَقْدِيرُهُ: فَمِنَ اللَّهِ المَبْدَأُ: - وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ الزّائِلُ أبَدًا مُؤْذِنًا بِتَرْكِ الِاعْتِمادِ عَلَيْهِ أقامَ تَعالى عَلى المُتَمَسِّكِ بِما دُونَهُ حُجَّةً بِزَوالِهِ، فَلا يَسْتَطِيعُ الثَّباتَ عَلَيْهِ عِنْدَ ما تَنالُهُ الإزالَةُ والإذْهابُ، ويَصِيرُ الأمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَأعْلَمَ أنَّ المَصِيرَ المُطْلَقَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَمَن تَعَرَّفَ إلَيْهِ فَعَرَفَهُ نالَ أعْظَمَ النَّعِيمِ، ومَن تَعَرَّفَ إلَيْهِ فَأنْكَرَهُ نالَ أشَدَّ الجَحِيمِ - انْتَهى؛ فَقالَ -: ﴿وإلى اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ ﴿المَصِيرُ﴾ أيْ وإنْ طالَ إمْلاؤُهُ لِمَن أعْرَضَ عَنْهُ فَيُوشِكُ أنْ يَنْتَقِمَ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب