الباحث القرآني
فَلَمّا ثَبَتَتْ خُصُوصِيَّتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِصِفَةِ القُدْرَةِ عَلى الوَجْهِ (p-٣١٨)الأعَمِّ ذَكَرَ بَعْضَ ما تَحْتَ ذَلِكَ مِمّا لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنهُ تَحْتَ قُدْرَةِ غَيْرِهِ فَقالَ: - وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُتَضَمِّنَةً تَقَلُّباتٍ نَفْسانِيَّةً في العالِمِ القائِمِ الآدَمِيِّ اتَّصَلَ بِها ذِكْرُ تَقَلُّباتٍ في العالَمِ الدّائِرِ لِيُؤْخَذَ لِكُلٍّ مِنها اعْتِبارٌ مِنَ الآخَرِ. ولَمّا ظَهَرَ في هَذِهِ الآيَةِ افْتِراقُ النَّزْعِ والإيتاءِ والإعْزازِ والإذْلالِ أبْدى في الآيَةِ التّالِيَةِ تَوالُجَ بَعْضِها في بَعْضٍ لِيُؤْذِنَ بِوُلُوجِ العِزِّ في الذُّلِّ والذُّلِّ في العِزِّ، والإيتاءِ في النَّزْعِ والنَّزْعِ في الإيتاءِ، وتَوالُجِ المُفْتَرِقاتِ والمُتَقابِلاتِ بَعْضِها في بَعْضٍ، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُتَضَمِّنَةً لِبَيانِ الإحْكامِ والتَّشابُهِ في مَنزِلِ الكِتابِ بِحُكْمِ الفُرْقانِ أظْهَرَ تَعالى في آياتِها ما أحْكَمَ وبَيَّنَ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ وما التَبَسَ وأوْلَجَ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ، فَكانَ مِن مُحْكَمِ آيَةٍ في الكائِنِ القائِمِ الآدَمِيِّ ما تَضَمَّنَهُ إيتاءُ المُلْكِ ونَزْعُهُ والإعْزازُ والإذْلالُ، وكانَ مِنَ الاشْتِباهِ إيلاجُ العِزِّ في الذُّلِّ وإيلاجُ الذُّلِّ في العِزِّ، فَلَمّا صَرَّحَ بِالإحْكامِ بِبَيانِ الطَّرَفَيْنِ في الكائِنِ القائِمِ الآدَمِيِّ، وضَمَّنَ الخِطابَ اشْتِباهَهُ في ذِكْرِ العِزِّ والذُّلِّ صَرَّحَ بِهِ في آيَةِ الكَوْنِ الدّائِرِ، فَذَكَرَ آيَةَ الآفاقِ وهو اللَّيْلُ والنَّهارُ بِما يُعايَنُ فِيها مِنَ التَّوالُجِ حَيْثُ ظَهَرَ ذَلِكَ فِيها وخَفِيَ في تَوالُجِ أحْوالِ الكائِنِ القائِمِ، لِأنَّ الإحْكامَ والِاشْتِباهَ (p-٣١٩)مُتَرادٌّ بَيْنَ الآيَتَيْنِ: آيَةِ الكائِنِ القائِمِ الآدَمِيِّ وآيَةِ الكَوْنِ الدّائِرِ العَرْشِيِّ، فَما وقَعَ اشْتِباهُهُ في أحَدِهِما ظَهَرَ إحْكامُهُ في الآخَرِ فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿تُولِجُ﴾ مِنَ الوُلُوجِ، وهو الدُّخُولُ في الشَّيْءِ السّاتِرِ لِجُمْلَةِ الدّاخِلِ ﴿اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ فِيهِ تَفْصِيلٌ مِن مَضاءِ قُدْرَتِهِ، فَهو سُبْحانُهُ وتَعالى يَجْعَلُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُتَقابِلَيْنِ بِطانَةً لِلْآخَرِ والِجًا فِيهِ عَلى وجْهٍ لا يَصِلُ إلَيْهِ مَنالُ العُقُولِ لِما في المَعْقُولِ مِنَ افْتِراقِ المُتَقابِلاتِ، فَكانَ في القُدْرَةِ إيلاجُ المُتَقابِلاتِ بَعْضِها في بَعْضٍ وإيداعُ بَعْضِها في بَعْضٍ عَلى وجْهٍ لا يَتَكَيَّفُ بِمَعْقُولٍ ولا يُنالُ بِفِكْرٍ. انْتَهى.
﴿وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾ أيْ تُدْخِلُ كُلًّا مِنهُما في الآخَرِ بَعْدَ ظُهُورِهِ حَتّى يَذْهَبَ فِيهِ فَيَخْفى ولا يَبْقى لَهُ أثَرٌ. قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا جَعَلَ المُتَعاقِبَيْنِ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ مُتَوالِجَيْنِ جَعَلَ المُتَباطِنَيْنِ مِنَ الحَيِّ والمَيِّتِ مُخْرَجَيْنِ، فَما ظَهَرَ فِيهِ المَوْتُ بَطَنَتْ فِيهِ الحَياةُ، وما ظَهَرَتْ فِيهِ الحَياةُ بَطَنَ فِيهِ المَوْتُ؛ انْتَهى. فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وتُخْرِجُ الحَيَّ﴾ أيْ مِنَ النَّباتِ والحَيَوانِ ﴿مِنَ المَيِّتِ﴾ مِنهُما ﴿وتُخْرِجُ (p-٣٢٠)المَيِّتَ﴾ مِنهُما ﴿مِنَ الحَيِّ﴾ مِنهُما كَذَلِكَ.
قالَ الحَرالِّيُّ: فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتُهُ في الكائِنِ القائِمِ وفي الكَوْنِ الدّائِرِ، فَأمّا في الكَوْنِ الدّائِرِ فَبِإخْراجِ حَيِّ الشَّجَرِ والنَّجْمِ مِن مَواتِ البَذْرِ والعَجَمِ، وبِظُهُورِهِ في العِيانِ كانَ أحْكَمَ في البَيانِ مِمّا يَقَعُ في الكائِنِ القائِمِ، كَذَلِكَ الكائِنُ القائِمُ يَخْرُجُ الحَيُّ المُؤْمِنُ المُوقِنُ مِنَ المَيِّتِ الكافِرِ الجاهِلِ
﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ﴾ [التوبة: ١١٤] ويَخْرُجُ الكافِرُ الآبِي مِنَ المُؤْمِنِ الرّاحِمِ ﴿يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أظْهَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِذَلِكَ وُجُوهَ الإحْكامِ والِاشْتِباهِ في آيَتَيْ خَلْقِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلى ما في أمْرِهِ، ولِيَشِفَّ ذَلِكَ عَمّا يَظْهَرُ مِن أمْرِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ عَلى مَن شاءَ مِن عِبادِهِ كَما أظْهَرَ في مَلائِكَتِهِ وأنْبِيائِهِ، وكَما خَصَّصَ بِما شاءَ مِن إظْهارِ عَظِيمِ أمْرِهِ في المَثَلَيْنِ الأعْظَمَيْنِ: مَثَلِ آدَمَ وعِيسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِبَيانِ الأمْرِ فِيما اشْتَبَهَ عَلى مَنِ التَبَسَ عَلَيْهِ أمْرُ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، (p-٣٢١)فَهُوَ تَعالى أظْهَرَ مِن مَواتِ الإنْسانِيَّةِ ما شاءَ مِنَ الإحْياءِ بِإذْنِهِ، وأظْهَرَ في آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما شاءَ مِن عِلْمِهِ حِينَ عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها كَذَلِكَ أظْهَرَ في عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما شاءَ مِن قُدْرَتِهِ كَما أظْهَرَ في الخَلْقِ ما شاءَ مِن مُلْكِهِ، فَمَلَّكَ مَن شاءَ ونَزَعَ المُلْكَ مِمَّنْ شاءَ، وأعَزَّ مَن شاءَ وأذَلَّ مَن شاءَ، وأظْهَرَ بِالنَّهارِ ما شاءَ وطَمَسَ بِاللَّيْلِ ما شاءَ، وأوْلَجَ المُتَقابِلَيْنِ بَعْضَهُما في بَعْضٍ وأخْرَجَ المُتَباطِنَيْنِ بَعْضَهُما مِن بَعْضٍ. انْتَهى.
ولَمّا بَدَأ الآيَةَ سُبْحانَهُ وتَعالى مِمّا يَقْتَضِي التَّرْغِيبَ بِما هو مَحَطُّ أحْوالِ الأنْفُسِ مِنَ المُلْكِ وأنْواعِ الخَيْرِ خَتَمَها بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمّا لا يَقُومُ المُلْكُ ولا يَطِيبُ العَيْشُ إلّا بِهِ فَقالَ: ﴿وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ﴾ قَوِيًّا كانَ أوْ ضَعِيفًا ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ تُعْطِيهِ عَطاءً واسِعًا جِدًّا مُتَّصِلًا مِن غَيْرِ تَضْيِيقٍ ولا عُسْرٍ، كَما فَعَلَ بِأوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى ما كانُوا فِيهِ مِنَ القِلَّةِ والضَّعْفِ حَيْثُ أبادَ بِهِمُ الأكاسِرَةَ والقَياصِرَةَ وآتاهم كُنُوزَهم وأخْدَمَهم أبْناءَهم وأحَلَّهم دِيارَهم. وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذا الإحْكامَ والِاشْتِباهَ في أمْرِ العِلْيَةِ مِنَ الخَلْقِ أهْلِ شَرَفِ المُلْكِ وأهْلِ عِزَّةِ الدِّينِ خَتَمَ الخِطابَ بِأمْرِ الرِّزْقِ الَّذِي هو (p-٣٢٢)تَتِمَّةُ الخَلْقِ، وفِيهِ مِنَ الإحْكامِ والِاشْتِباهِ نَحْوُ ما في الإيتاءِ والنَّزْعِ ولِما فِيهِ مِنَ الوَزْنِ والإيتاءِ بِقَدْرٍ خَتَمَ بِأعَزِّيهِ وهو الإرْزاقُ الَّذِي لا يَقَعُ عَلى وزْنٍ ولا يَكُونُ بِحِسابٍ، وفِيهِ إشْعارٌ بِالإرْزاقِ الخَتْمِيِّ الَّذِي يَكُونُ في آخِرِ اليَوْمِ المُحَمَّدِيِّ لِلَّذِينَ يُؤْتِيهِمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ما شاءَ مِن مُلْكِهِ وعِزِّهِ وسَعَةِ رِزْقِهِ بِغَيْرِ حِسابٍ، فَكَما خَتَمَ المُلْكَ لِبَنِي إسْرائِيلَ بِمُلْكِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿هَذا عَطاؤُنا فامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [ص: ٣٩] كَذَلِكَ يَخْتِمُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِأنْ يَرْزُقَهم بِغَيْرِ حِسابٍ حِينَ تُلْقِي الأرْضُ بَرَكاتِها وتَتَطَهَّرُ مِن فِتْنَتِها، فَتَقَعُ المُكْنَةُ في خَتْمِ اليَوْمِ المُحَمَّدِيِّ بِالهِدايَةِ والهُدْنَةِ كَما انْقَضَتْ لِبَنِي إسْرائِيلَ بِالمُلْكِ والقُوَّةِ. انْتَهى.
{"ayah":"تُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











