الباحث القرآني
ولَمّا أخْبَرَ تَعالى أنَّ الكُفّارَ سَيُغْلَبُونَ وأنَّهُ لَيْسَ لَهم مِن ناصِرِينَ كانَ حالُهم مُقْتَضِيًا لِأنْ يَقُولُوا: كَيْفَ ونَحْنُ أكْثَرُ مِنَ الحَصى وأشَدُّ شَكائِمَ مِن لُيُوثِ الشَّرى، فَكَيْفَ نُغْلَبُ؟ أمْ كَيْفَ لا يَنْصُرُ بَعْضُنا بَعْضًا وفِينا المُلُوكُ والأُمَراءُ والأكابِرُ والرُّؤَساءُ ومُناوُونا القَلِيلُ الضُّعَفاءُ، أهْلُ الأرْضِ الغَبْراءِ، وأُولُو البَأْساءِ والضَّرّاءِ، فَقالَ تَعالى لِيَنْتَبِهَ الرّاقِدُونَ مِن فُرُشِ الغَفَلاتِ المُتَقَلِّبُونَ في فَلَواتِ البِلاداتِ مِن تَلَهِّيهِمْ بِما رَأوْا وسَمِعُوا مِن نَزْعِ المُلْكِ مِن أقْوى النّاسِ وإعْطائِهِ لِأضْعَفِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ أعْدائِهِ جَدِيرٌ بِأنْ يَفْعَلَ أضْعافَهُ لِأوْلِيائِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ هَذا الأمْرُ نُبُوَّةً ثُمَّ خِلافَةً ثُمَّ مُلْكًا فانْتَظَمَ بِما تَقَدَّمَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ أمْرُ النُّبُوَّةِ في التَّنْزِيلِ والإنْزالِ، وأمْرُ الخِلافَةِ في ذِكْرِ الرّاسِخِينَ (p-٣٠٩)فِي العِلْمِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ [آل عمران: ٨] وكانَتْ مِن هِجِّيرِيِّ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، يَقْنُتُ بِها في وتْرِ صَلاةِ النَّهارِ في آخِرِ رَكْعَةٍ مِنَ المَغْرِبِ - انْتَظَمَ بِرُؤُوسِ تِلْكَ المَعانِي ذِكْرُ المُلْكِ الَّذِي آتى اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ، وخَصَّ بِهِ مَن لاقَ بِهِ المُلْكُ، كَما خَصَّ بِالخِلافَةِ مَن صَلُحَتْ لَهُ الخِلافَةُ، كَما تَعَيَّنَ لِلنُّبُوَّةِ الخاتِمَةِ مَن لا يَحْمِلُها سِواهُ - انْتَهى؛ فَقالَ: ”قُلْ“ أيْ يا مُحَمَّدُ أوْ يا مَن آمَنَ بِنا مُخاطِبًا لِإلَهِكَ مُسْمِعًا لَهم ومُعْرِضًا عَنْهم ومُنَبِّهًا لَهم مِن سَكَراتِ غَفَلاتِهِمْ في إقْبالِهِمْ عَلى مُلُوكٍ لا شَيْءَ في أيْدِيهِمْ، وإعْراضِهِمْ عَنْ هَذا المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: لِعُلُوِّ مَنزِلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَثُرَ الإقْبالُ فِيها بِالخِطابِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وجُعِلَ القائِلَ لَمّا كانَتِ المُجاوَرَةُ مَعَهُ، لِأنَّ مُنْزَلَ القُرْآنِ ما كانَ مِنهُ لِإصْلاحِ ما بَيْنَ الخَلْقِ ورَبِّهِمْ يَجِيءُ الخِطابُ فِيهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إلَيْهِمْ مُواجَهَةً حَتّى يَنْتَهِيَ إلى الإعْراضِ عِنْدَ إباءِ مَن يَأْبى مِنهُمْ، وما كانَ لِإصْلاحِ ما بَيْنَ الأُمَّةِ ونَبِيِّها يُجْرِي اللَّهُ الخِطابَ فِيهِ عَلى لِسانِهِ مِن حَيْثُ تَوَجُّهُهم بِالمُجاوَرَةِ إلَيْهِ، فَإذا قالُوا قَوْلًا (p-٣١٠)يَقْصِدُونَهُ بِهِ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: قُلْ لَهُمْ، ولِكَوْنِ القُرْآنِ مَتْلُوًّا ثَبَتَتْ فِيهِ كَلِمَةُ (قُلْ). انْتَهى.
﴿اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ أيْ لا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنهُ غَيْرُكَ. قالَ الحَرالِّيُّ: فَأقْنَعَهُ ﷺ مُلْكُ رَبِّهِ، فَمَن كانَ مِنهُ ومِن آلِهِ وخُلَفائِهِ وصَحابَتِهِ يَكُونُ مِن إسْلامِهِ وجْهَهُ لِرَبِّهِ إسْلامُ المُلْكِ كُلِّهِ الَّذِي مِنهُ شَرَفُ الدُّنْيا لِلَّهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ﷺ يَتَظاهَرُ بِالمُلْكِ ولا يَأْخُذُهُ مَآخِذَهُ، لِأنَّهُ كانَ نَبِيًّا عَبْدًا، لا نَبِيًّا مَلِكًا، فَأسْلَمَ المُلْكَ لِلَّهِ، كَذَلِكَ خُلَفاؤُهُ أسْلَمُوا المُلْكَ لِلَّهِ فَلَبِسُوا الخُلْقانَ والمُرَقَّعاتِ واقْتَصَرُوا عَلى شَظَفِ العَيْشِ، ولانُوا في الحَقِّ، وحَمَلُوا جَفاءَ الغَرِيبِ، واتَّبَعُوا أثَرَهُ في العُبُودِيَّةِ، فَأسْلَمُوا المُلْكَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولَمْ يُنازِعُوهُ شَيْئًا مِنهُ، حَمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قِرْبَةً عَلى ظَهْرِهِ في زَمَنِ خِلافَتِهِ حَتّى سَكَبَها في دارِ امْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ في أقْصى المَدِينَةِ، فَلَمّا جاءَ اللَّهُ بِزَمَنِ المُلْكِ واسْتُوفِيَتْ أيّامُ الخِلافَةِ عَقِبَ وفاءِ زَمانِ النُّبُوَّةِ أظْهَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى المُلْكَ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وكَما خَصَّصَ بِالنُّبُوَّةِ والإمامَةِ بَيْتَ مُحَمَّدٍ وآلَ (p-٣١١)مُحَمَّدٍ ﷺ وخَصَّصَ بِالخِلافَةِ فُقَراءَ المُهاجِرِينَ خَصَّصَ بِالمُلْكِ الطُّلَقاءَ الَّذِينَ كانُوا عُتَقاءَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، لِيَنالَ كُلٌّ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ وفَضْلِهِ، الَّتِي ولّى جَمِيعَها نَبِيُّهُ ﷺ كُلَّ طائِفَةٍ عَلى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنهُ، حَتّى اخْتَصَّ بِالتَّقَدُّمِ قُرَيْشًا ما كانَتْ، ثُمَّ العَرَبَ ما كانَتْ إلى ما صارَ لَهُ الأمْرُ بَعْدَ المُلْكِ مِن سَلْطَنَةٍ وتَجَبُّرٍ إلى ما يَصِيرُ إلَيْهِ مِن دَجَلٍ كُلُّ ذَلِكَ مُخَوَّلٌ لِمَن يُخَوِّلُهُ بِحَسَبِ القُرْبِ والبُعْدِ مِنهُ ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ في الإيتاءِ إشْعارٌ بِأنَّهُ تَنْوِيلٌ مِنَ اللَّهِ مِن غَيْرِ قُوَّةٍ وغَلَبَةٍ ولا مُطاوَلَةٍ فِيهِ وفي التَّعْبِيرِ بِمَنِ العامَّةِ لِلْعُقَلاءِ إشْعارٌ بِمَنالِ المُلْكِ مَن لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِهِ وأخَصُّ النّاسِ بِالبُعْدِ مِنهُ العَرَبُ، فَفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ اللَّهَ يُنَوِّلُ مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ العَرَبَ كَما وقَعَ مِنهُ ما وقَعَ، ويَنْتَهِي مِنهُ ما بَقِيَ إلى مَن نالَ المُلْكَ بِسَبَبِها وعَنِ الاسْتِنادِ إلَيْها مِن سائِرِ الأُمَمِ الَّذِينَ دَخَلُوا في هَذِهِ الأُمَّةِ مِن قَبائِلِ الأعاجِمِ وصُنُوفِ أهْلِ الأقْطارِ حَتّى يَنْتَهِيَ الأمْرُ إلى أنْ يَسْلُبَ اللَّهُ المُلْكَ جَمِيعَ أهْلِ الأرْضِ، فَيُعِيدَهُ إلى إمامِ العَرَبِ الخاتِمِ (p-٣١٢)لِلْهِدايَةِ مِن ذُرِّيَّتِهِ خَتْمَهُ ﷺ لِلنُّبُوَّةِ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، ويُؤْتِيهِمْ مِنَ المُكْنَةِ، كَما قالَ ﷺ:
«لَوْ شاءَ أحَدُهم أنْ يَسِيرَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ في خُطْوَةٍ لَفَعَلَ» ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنَ الدُّنْيا ولَيْسَتِ الدُّنْيا مِنهُمْ، فَيُؤْتِيهِمُ اللَّهُ مُلْكًا مِن مُلْكِهِ - ظاهِرَ هِدايَةِ مَن هَداهُ، شَأْفَةً عَنْ سِرِّهِ الَّذِي يَسْتَعْلِنُ بِهِ في خاتِمَةِ يَوْمِ الدُّنْيا لِيَتَّصِلَ بِظُهُورِهِ مَلِكَ يَوْمِ الدِّينِ، والمُلْكُ التَّلَبُّسُ بِشَرَفِ الدُّنْيا والِاسْتِئْثارُ بِخَيْرِها؛ قالَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في وصِيَّتِهِ: إذا جَنَيْتَ فَلْتَهْجُرْ يَدُكَ فاكَ حَتّى يَشْبَعَ مَن جَنَيْتَ لَهُ، فَإنْ نازَعَتْكَ نَفْسُكَ في مُشارَكَتِهِمْ فَشارِكْهم غَيْرَ مُسْتَأْثِرٍ عَلَيْهِمْ، وإيّاكَ والذَّخِيرَةَ! فَإنَّ الذَّخِيرَةَ تُهْلِكُ دِينَ الإمامِ وتَسْفِكُ دَمَهُ، فالمُلْكُ التِباسٌ بِشَرَفِ الدُّنْيا واسْتِئْثارٌ بِخَيْرِها واتِّخاذُ ذَخِيرَةٍ مِنها.
لَمّا أرادُوا أنْ يُغَيِّرُوا عَلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ زِيَّهُ عِنْدَ إقْبالِهِ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ نَبَذَ زِيَّهم وقالَ: إنّا قَوْمٌ أعَزَّنا اللَّهُ بِالإسْلامِ! فَلَنْ نَلْتَمِسَ العِزَّةَ بِغَيْرِهِ. فَمَنِ التَمَسَ الشَّرَفَ بِجاهِ الدُّنْيا فَهو مَلِكٌ بِقَدْرِ ما يَلْتَمِسُ مِن شَرَفِها قَلَّ ذَلِكَ الحَظُّ أوْ جَلَّ، وهو بِهِ مِن أتْباعِ (p-٣١٣)مُلُوكِ الدُّنْيا، وكَذَلِكَ مَنِ التَمَسَ الِاسْتِئْثارَ بِخَيْرِها واتَّخَذَ الذَّخِيرَةَ مِنها، كُلٌّ يَنالُ مِنَ المُلْكِ ويَكُونُ مِن شِيعَةِ المُلُوكِ بِحَسَبِ ما يَنالُ ويُحِبُّ مِن ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى حَشْرِهِ مَعَ الصِّنْفِ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ، فَمَن تَذَلَّلَ وتَقَلَّلَ وتَوَكَّلَ بُعِثَ مَعَ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ والخُلَفاءِ، كَما أنَّ مَن تَشَرَّفَ بِالدُّنْيا واسْتَأْثَرَ وادَّخَرَ مِنها حُشِرَ مَعَ المُلُوكِ والسَّلاطِينِ؛ جَلَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَوْمًا وسَلْمانُ وكَعْبٌ وجَماعَةٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم فَقالَ: أخْبِرُونِي أخَلِيفَةٌ أنا أمْ مَلِكٌ؟ فَقالَ لَهُ سَلْمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! إنْ جَبَيْتَ دِرْهَمًا مِن هَذا المالِ فَوَضَعْتَهُ في غَيْرِ حَقِّهِ فَأنْتَ مَلِكٌ، وإنْ لَمْ تَضَعْهُ إلّا في حَقِّهِ فَأنْتَ خَلِيفَةٌ، فَقالَ كَعْبٌ: رَحِمَ اللَّهُ تَعالى! ما ظَنَنْتُ أنَّ أحَدًا يَعْرِفُ الفَرْقَ بَيْنَ الخَلِيفَةِ والمَلِكِ غَيْرِي، فالتِزامُ مَرارَةِ العَدْلِ وإيثارُ الغَيْرِ خِلافَةٌ وتَشَيُّعٌ في سَبِيلِها، ومَنالُ حَلاوَةِ الِاسْتِئْثارِ بِالعاجِلَةِ شَرَفِها ومالِها مُلْكٌ وتَحَيُّزٌ لِتُبّاعِهِ. انْتَهى.
وفِي تَقْدِيمِ الإيتاءِ عَلى (p-٣١٤)النَّزْعِ إشارَةٌ إلى أنَّ الدّاعِيَ يَنْبَغِي أنْ يَبْدَأ بِالتَّرْغِيبِ ﴿وتَنْـزِعُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ النَّزْعِ، وهو الأخْذُ بِشِدَّةٍ وبَطْشٍ. انْتَهى.
﴿المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الدُّعاءَ بِاللِّينِ إنْ لَمْ يُجْدِ ثَنّى بِالتَّرْهِيبِ، وعَلى هَذا المِنوالِ أبْرَزَ قَوْلَهُ: ﴿وتُعِزُّ مَن تَشاءُ﴾ أيْ إعْزازَهُ ﴿وتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ أيْ إذْلالَهُ، وهو كَما قالَ: «إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» قالَ الحَرالِّيُّ: وفي كَلِمَةِ النَّزْعِ بِما يُنْبِئُ عَنْهُ مِنَ البَطْشِ والقُوَّةِ ما يُناسِبُ مَعْنى الإيتاءِ، فَهو إيتاءٌ لِلْعَرَبِ ونَزْعٌ مِنَ العَجَمِ، كَما ورَدَ أنَّ كِسْرى رَأى في مَنامِهِ أنَّهُ يُقالُ لَهُ: سَلِّمْ ما بِيَدِكَ لِصاحِبِ الهِراوَةِ، فَنَزَعَ مُلْكَ المُلُوكِ مِنَ الأكاسِرَةِ والقَياصِرَةِ وخَوَّلَهُ قُرَيْشًا ومَن قامَ بِأمْرِها وانْتَحَلَ المُلْكَ بِاسْمِها مِن صُنُوفِ الأُمَمِ غَرْبًا وشَرْقًا وجَنُوبًا وشَمالًا، إلى ما يَتِمُّ بِهِ الأمْرُ في الخَتْمِ، والعِزُّ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - عِزَّةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: لِأهْلِهِ ولِآلِ نَبِيِّهِ ﷺ والأنْصارِ والصُّلَحاءِ مِن صَحابَتِهِ وعَشِيرَتِهِ وأبْنائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمُ الَّذِينَ سَلَبَهُمُ اللَّهُ مُلْكَ الدُّنْيا فَحَلّاهم بِعِزِّ الآخِرَةِ وبِعِزَّةِ الدِّينِ كَما قالَ (p-٣١٥)سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] لِيَكُونَ في الخِطابِ إنْباءُ بُشْرى لَهم أنَّهُ أتاهم مِنَ العِزِّ بِالدِّينِ ما هو خَيْرٌ مِنَ الشَّرَفِ بِمُلْكِ الدُّنْيا ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠] فالمُلُوكُ وإنْ تَشَرَّفُوا بِمُلْكِ الدُّنْيا فَلَيْسَ لَهم مِن عِزَّةِ الدِّينِ شَيْءٌ، أعَزَّهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالدِّينِ، تَخْدُمُهُمُ الأحْرارُ وتَتَوَطَّدُ لَهُمُ الأمْصارُ، لا يَجِدُونَ وحْشَةً، ولا يُحْصَرُونَ في مَحَلٍّ، ولا تَسْقُطُ لَهم حُرْمَةٌ حَيْثُ ما حَلُّوا وحَيْثُ ما كانُوا اسْتَتَرُوا أوِ اشْتَهَرُوا، والمُتَلَبِّسُونَ بِالمُلْكِ لا يَخْدُمُهم إلّا مَنِ اسْتَرَقُّوهُ قَهْرًا، يَمْلِكُونَ تَصَنُّعَ الخَلْقِ ولا يَمْلِكُونَ مَحابَّ قُلُوبِهِمْ، مَحْصُورُونَ في أقْطارِ مَمالِكِهِمْ، لا يَخْرُجُونَ عَنْها ولا يَنْتَقِلُونَ مِنها حَتّى يَمْنَعَهم مِن كَمالِ الدِّينِ، فَلا يَنْصَرِفُونَ في الأرْضِ ولا يَضْرِبُونَ فِيها، حَتّى يَمْتَنِعَ مُلُوكٌ مِنَ الحَجِّ مَخافَةَ نَيْلِ الذُّلِّ في غَيْرِ مَوْطِنِ المُلْكِ، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: «إنَّ عَبْدًا أصْحَحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وأوْسَعْتُ عَلَيْهِ في رِزْقِهِ، يُقِيمُ خَمْسَةَ أعْوامٍ لا يَفِدُ عَلى المَحْرُومِ» (p-٣١٦)فالمُلُوكُ مَمْلُوكُونَ بِما مَلَكُوا، وأعِزّاءُ اللَّهِ مُمَكَّنُونَ فِيما إلَيْهِ وُجِّهُوا، لا يَصُدُّهم عَنْ تَكْمِلَةِ أمْرِ الدِّينِ وإصْلاحِ أمْرِ الآخِرَةِ صادٌّ، ولا يَرُدُّهم عَنْهُ رادٌّ لِخُرُوجِهِمْ مِن سِجْنِ المُلْكِ إلى سَعَةِ العِزِّ بِعِزَّةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَقارَضَ اللَّهُ أهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ ﷺ ورَضِيَ عَنْهُمْ، ولَمْ يَرْضَهُ لِلْمُلْكِ بِعِزِّ الإمامَةِ ورِفْعَةِ الوِلايَةِ والِاسْتِيلاءِ عَلى مَحابِّ القُلُوبِ فاسْتَرْعاهُمُ اللَّهُ قُلُوبَ العالَمِينَ بِما اسْتَرْعى المُلُوكُ بَعْضَ حَواسِّ المُسْتَخْدَمِينَ والمُسْتَتْبَعِينَ، والذُّلُّ مُقابِلُ ذَلِكَ العِزَّةُ، فَإذا كانَ ذَلِكَ العِزُّ عِزًّا دِينِيًّا رَبّانِيًّا عِوَضًا عَنْ سَلْبِ المُلْكِ كانَ هَذا الذُّلُّ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - ذُلَّ أهْلِ الدُّنْيا في دُنْياهُمُ الَّذِي ألْزَمَهم سُبْحانَهُ وتَعالى إيّاهُ بِما أذَلَّتْهم أنْفُسُهُمْ، فاسْتَعْمَلَتْهم في شَهَواتِها وأذَلَّهم أتْباعُهم فَتَوَسَّلُوا بِهِمْ إلى قَضاءِ أغْراضِهِمْ في أهْوائِهِمْ، ويَسْتَذِلُّهم مَن يَظْلِمُونَهُ بِما يَنْتَصِفُونَ مِنهُمْ، ويَنالُهم مِن ذُلِّ تَضْيِيعِ الدِّينِ، ويَبْدُو عَلى وُجُوهِهِمْ مِن ظُلْمَةِ الظُّلْمِ ما يَشْهَدُ ذُلَّهم فِيهِ أبْصارُ العارِفِينَ. انْتَهى.
ولَعَلَّ نَصارى نَجْرانَ أشَدُّ قَصْدًا بِهَذا الخِطابِ، فَإنَّهم خافُوا أنْ يَنْزِعَ مِنهُ مُلُوكُ الرُّومِ ما خَوَّلُوهم فِيهِ مِنَ الدُّنْيا إنْ أخْبَرُوا بِما يَعْلَمُونَ مِن أمْرِ هَذا النَّبِيِّ (p-٣١٧)الأُمِّيِّ ﷺ.
ولَمّا تَقَرَّرَ أنَّهُ مالِكٌ لِما تَقَدَّمَ أنْتَجَ أنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ المُطْلَقَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بِيَدِكَ﴾ أيْ وحْدَكَ ﴿الخَيْرُ﴾ ولَمْ يَذْكُرِ الشَّرَّ تَعْلِيمًا لِعِبادِهِ الأدَبَ في خِطابِهِ، وتَرْغِيبًا لَهم في الإقْبالِ عَلَيْهِ والإعْراضِ عَمّا سِواهُ، لِأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بِأنَّ النّاسَ أسْرَعُ شَيْءٍ إلى مُعْطِي النَّوالِ وباذِلِ الأمْوالِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ الشَّرَّ أهْلٌ لِلْإعْراضِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِن أمْرِهِ حَتّى عَنْ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ وإخْطارِهِ بِالبالِ، مَعَ أنَّ الِاقْتِصارَ عَلى الخَيْرِ بِمِلْكِ الخَيْرِ كُلِّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ في الشَّرِّ، لِأنَّهُما ضِدّانِ، كُلٌّ مِنهُما مُساوٍ لِنَقِيضِ الآخَرِ، فَإثْباتُ أحَدِهِما نَفْيٌ لِلْآخَرِ ونَفْيُهُ إثْباتٌ لِلْآخَرِ، فَلا يُعْطى الخَيْرُ إلّا وقَدْ نُفِيَ الشَّرُّ، ولا يُنْزَعُ الخَيْرُ إلّا وقَدْ وُضِعَ الشَّرُّ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ. ولَمّا أفْهَمَ أنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ كَما أعْلَمَ أنَّ الخَيْرَ بِيَدِهِ وخاصٌّ بِهِ قَرَّرَ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ أعَمَّ بِقَوْلِهِ مُعَلِّلًا: ﴿إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
{"ayah":"قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُۖ بِیَدِكَ ٱلۡخَیۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











