الباحث القرآني

ولَمّا تَسَبَّبَ عَنْ هَذا الدُّعاءِ الإجابَةُ؛ لِتَكْمُلَ شُرُوطُهُ؛ وهي اسْتِحْضارُ عَظَمَتِهِ (تَعالى)؛ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالدَّلِيلِ؛ وإدامَةُ ذِكْرِهِ؛ والتَّفَكُّرُ في بَدائِعِ صُنْعِهِ؛ وافْتِتاحُهُ بِالثَّناءِ عَلَيْهِ - سُبْحانَهُ - وتَنْزِيهُهُ؛ والإخْلاصُ في سُؤالِهِ؛ قالَ: ﴿فاسْتَجابَ﴾؛ أيْ: فَأوْجَدَ الإجابَةَ حَتْمًا؛ ﴿لَهُمْ﴾؛ قالَ الأصْفَهانِيُّ: ”وعَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ: مَن حَزَبَهُ أمْرٌ؛ فَقالَ - خَمْسَ مَرّاتٍ -“رَبَّنا”؛ أنْجاهُ اللَّهُ مِمّا يَخافُ؛ وأعْطاهُ ما أرادَ؛ وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ“؛ وأشارَ إلى أنَّها مِن (p-١٦١)مَنِّهِ؛ وفَضْلِهِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّهُمْ﴾؛ أيْ: المُحْسِنُ إلَيْهِمُ؛ المُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ؛ ﴿أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُمْ﴾؛ كائِنًا مَن كانَ؛ ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾ وقَوْلُهُ - مُعَلِّلًا -: ﴿بَعْضُكم مِن بَعْضٍ﴾؛ التِفاتٌ إلى قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩]؛ النّاظِرِ إلى قَوْلِهِ: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٤]؛ المُفْتَتَحِ بِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - ﴿اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣]؛ المُنادِي بِأنَّ البَشَرَ كُلَّهم في العُبُودِيَّةِ لِلْواحِدِ؛ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ الحَيِّ القَيُّومِ؛ سَواءٌ؛ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ في ذَلِكَ أصْلًا؛ والمُرادُ أنَّهم إذا كانُوا مِثْلَهم في النَّسَبِ؛ فَهم مِثْلُهم في الأجْرِ عَلى العَمَلِ. ولَمّا أقَرَّ أعْيُنَهم بِالإجابَةِ - وكانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأنْصارِ عُمُومًا؛ في قَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ ألا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: ١٧٠] ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧١] -؛ خَصَّ المُهاجِرِينَ؛ بَيانًا لِفَضْلِهِمْ؛ وزِيادَةِ شَرَفِهِمْ؛ بِتَحْقِيقِهِمْ لِكَوْنِهِمْ مَعَهُ؛ لَمْ يَأْنَسُوا بِغَيْرِهِ؛ ولَمْ يَرْكَنُوا لِسِواهُ؛ مِن أهْلٍ؛ ولا مالٍ؛ بِقَوْلِهِ - مُسَبِّبًا عَنِ الوَعْدِ المَذْكُورِ؛ ومُفَصِّلًا؛ ومُعَظِّمًا؛ ومُبَجِّلًا -: ﴿فالَّذِينَ هاجَرُوا﴾؛ أيْ: صَدَّقُوا إيمانَهم بِمُفارَقَةِ أحَبِّ النّاسِ إلَيْهِمْ؛ في الدِّينِ المُؤَدِّي إلى المُقاطَعَةِ؛ وأعَزِّ البِلادِ عَلَيْهِمْ. ولَمّا كانَ لِلْوَطَنِ مِنَ القَلْبِ مَنزِلٌ؛ لَيْسَ لِغَيْرِهِ؛ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾؛ أيْ: وهي آثَرُ المَواطِنِ عِنْدَهُمْ؛ بَعْدَ أنْ (p-١٦٢)باعَدُوا أهْلَهُمْ؛ وهم أقْرَبُ الخَلائِقِ إلَيْهِمْ؛ ولَمّا كانَ الأذى مَكْرُوهًا لِنَفْسِهِ؛ لا بِالنِّسْبَةِ إلى مُعَيَّنٍ؛ بَنى لِلْمَفْعُولِ قَوْلَهُ: ﴿وأُوذُوا﴾؛ أيْ: بِغَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الأذى؛ ﴿فِي سَبِيلِي﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ دِينِي الَّذِي نَهَجْتُهُ لِيُسْلَكَ إلَيَّ فِيهِ؛ وحَكَمْتُ أنَّهُ لا وُصُولَ إلى رِضائِي بِدُونِهِ؛ ﴿وقاتَلُوا﴾؛ أيْ: في سَبِيلِي؛ ولَمّا كانَ القَتْلُ نَفْسُهُ هو المَكْرُوهَ؛ لا بِالنِّسْبَةِ إلى مُعَيَّنٍ؛ كانَ المَدْحُ عَلى اقْتِحامِ مُوجِباتِهِ؛ فَبَنى لِلْمَفْعُولِ قَوْلَهُ: ﴿وقُتِلُوا﴾؛ أيْ: فِيهِ؛ فَخَرَجُوا بِذَلِكَ عَنْ مَساكِنِ أرْواحِهِمْ بَعْدَ النُّزُوحِ عَنْ مَنازِلِ أشْباحِهِمْ؛ وقِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ؛ بِتَقْدِيمِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ أبْلَغُ مَعْنًى؛ لِأنَّها أشَدُّ تَرْغِيبًا في الإقْدامِ عَلى الأخْصامِ؛ لِأنَّ مَنِ اسْتَقْتَلَ أقْدَمَ عَلى الغَمَراتِ إقْدامَ الأسَدِ؛ فَقُتِلَ؛ أخَصُّ مِنهُ؛ ولَمْ يَقِفْ أحَدٌ أمامَهُ؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ”وأرادُوا القَتْلَ“؛ هَذا بِالنَّظَرِ إلى الإنْسانِ نَفْسِهِ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمَجْمُوعِ؛ فَيَكُونَ المَعْنى: وقاتَلُوا بَعْدَ أنْ رَأوْا كَثِيرًا مِن أصْحابِهِمْ قَدْ قُتِلَ؛ ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ﴾؛ كَما تَقَدَّمَ سُؤالُهم إيّايَ في ذَلِكَ؛ عِلْمًا مِنهم بِأنْ أحَدًا لَنْ يَقْدِرَ عَلى أنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛ (p-١٦٣)وإنِ اجْتَهَدَ؛ ﴿ولأُدْخِلَنَّهُمْ﴾؛ أيْ: بِفَضْلِي؛ ﴿جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾؛ كَما سَبَقَ بِهِ الوَعْدُ؛ ﴿ثَوابًا﴾؛ وهو - وإنْ كانَ عَلى أعْمالِهِمْ - فَهو فَضْلٌ مِنهُ؛ وعَظَمَةٌ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ أيْ: المَنعُوتِ بِالأسْماءِ الحُسْنى؛ الَّتِي مِنها الكَرَمُ؛ والرَّحْمَةُ؛ لِأنَّ أعْمالَهم لا تُوازِي أقَلَّ نِعَمِهِ؛ ﴿واللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الجَلالُ والإكْرامُ؛ ونَبَّهَ عَلى عَظَمَةِ المُحَدَّثِ عَنْهُ بِالعِنْدِيَّةِ؛ فَقالَ: ﴿عِنْدَهُ﴾؛ أيْ: في خَزائِنِ مَلَكُوتِهِ؛ الَّتِي هي في غايَةِ العَظَمَةِ؛ ﴿حُسْنُ الثَّوابِ﴾؛ أيْ: وهو ما لا شائِبَةُ كَدَرٍ فِيهِ؛ لِأنَّهُ شامِلٌ القُدْرَةَ؛ بِخِلافِ غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب