الباحث القرآني

ولَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِوَحْدانِيَّتِهِ في أوَّلِ السُّورَةِ واسْتَدَلَّ عَلَيْها وأخْبَرَ عَمّا أعَدَّ لِلْكافِرِينَ واسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِما دَلَّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ وخَتَمَ بِالإخْبارِ بِما أعَدَّ لِلْمُتَّقِينَ مِمّا جَرَّ إلى ذِكْرِهِ تَعالى بِما يَقْتَضِي الوَحْدانِيَّةَ أيْضًا مِنَ الأوْصافِ المَبْنِيَّةِ عَلى الإيمانِ أنْتَجَ ذَلِكَ ثُبُوتَها ثُبُوتًا لا مِرْيَةَ فِيهِ، فَكَرَّرَ تَعالى هَذِهِ النَّتِيجَةَ عَلى وجْهٍ أضْخَمَ مِنَ الماضِي كَما اقْتَضَتْهُ الأدِلَّةُ فَقالَ - وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا أنْهى تَعالى الفُرْقانَ نِهايَتَهُ بِبَيانِ المُحْكَمَيْنِ والمُتَشابِهَيْنِ في الوَحْيِ والكَوْنِ انْتُظِمَتْ هَذِهِ الشَّهادَةُ الَّتِي هي أعْظَمُ شَهادَةٍ في كِتابِ اللَّهِ بِآيَةِ القَيُّومِيَّةِ الَّتِي هي أعْظَمُ آيَةِ الوُجُودِ لِيَنْتَظِمَ آيَةَ الشُّهُودِ بِآيَةِ الوُجُودِ، انْتَهى. فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ الَّذِي لا كُفْؤَ لَهُ ﴿أنَّهُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فَأعادَ بِالإضْمارِ لِيَكُونَ الشّاهِدُ والمَشْهُودُ لَهُ ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ فَأعادَ بِالهُوِيَّةِ لِمَعْنى الوَحْدانِيَّةِ في الشَّهادَةِ ولَمْ يَقُلْ: إلّا اللَّهُ، لِما يُشْعِرُ بِهِ تَكْرارُ الِاسْمِ في مَحَلِّ الإضْمارِ مِنَ التَّنَزُّلِ (p-٢٨٨)العَلِيِّ. انْتَهى. والمَعْنى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَعَلَ فِعْلَ الشّاهِدِ في إخْبارِهِ عَمّا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ جَرْيًا عَلى عادَةِ الكُبَراءِ إذا رَأوْا تَقاعُسَ أتْباعِهِمْ عَمّا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنَ المُهِمّاتِ في تَعاطِيهِمْ لَهُ بِأنْفُسِهِمْ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الخَطْبَ قَدْ فَدَحَ والأمْرَ قَدْ تَفاقَمَ، فَيَتَساقَطُ حِينَئِذٍ إلَيْهِ الأتْباعُ ولَوْ أنَّ فِيهِ الهَلاكَ تَساقُطَ الذُّبابِ في أحْلى الشَّرابِ، وإلى ذَلِكَ يَنْظُرُ قَوْلُ وفْدِ ثَقِيفٍ: ما لِمُحَمَّدٍ يَأْمُرُنا بِأنْ نَشْهَدَ لَهُ بِالرِّسالَةِ ولا يَشْهَدُ هو لِنَفْسِهِ! فَكانَ ﷺ بَعْدُ لا يَخْطُبُ خُطْبَةً إلّا شَهِدَ لِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ ﷺ الشَّهادَةَ لِلَّهِ فِيها بِالرِّسالَةِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي أسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً قَدْ نَصَبَ لَكُمُ الأدِلَّةَ بِخَلْقِ ما خَلَقَ عَلى تَفَرُّدِهِ بِحَيْثُ انْتَفى كُلُّ رَيْبٍ فَكانَ ذَلِكَ أعْظَمَ شَهادَةٍ مِنهُ سُبْحانَهُ (p-٢٨٩)لِنَفْسِهِ، وإلَيْهِ أوْمَأ مَن قالَ: ؎ولِلَّهِ في كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ∗∗∗ وتَسْكِينَةٍ أبَدًا شاهِدُ ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ ثُمَّ شَهِدَ بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِكَلامِهِ جَمْعًا بَيْنَ آيَتَيِ السَّمْعِ والبَصَرِ فَلَمْ يُبْقِ لَكم عُذْرًا. قالَ الحَرالِّيُّ: وهَذِهِ الشَّهادَةُ الَّتِي هي مِنَ اللَّهِ لِلَّهِ هي الشَّهادَةُ الَّتِي إلَيْها قَصَدَ القاصِدُونَ وسَلَكَ السّالِكُونَ وإلَيْهِ انْتَهَتِ الإشارَةُ، وعِنْدَها وقَفَتِ العِبارَةُ، وهي أنْهى المَقاماتِ وأعْظَمُ الشَّهاداتِ، فَمَن شَهِدَ بِها فَقَدْ شَهِدَ شَهادَةً لَيْسَ وراءَها مَرْمى، ومَن شَهِدَ بِما دُونَها كانَتْ شَهادَتُهُ مَشْهُودًا عَلَيْها لا شَهادَةً، يُؤْثَرُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَزَلْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وهو قائِمٌ بِعَرَفَةَ مُنْذُ كانَ وقْتُ العَصْرِ إلى أنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ في حَجَّتِهِ الَّتِي كَمُلَ بِها الدِّينُ وتَمَّتْ بِها النِّعْمَةُ يَقُولُ هَذِهِ الآيَةَ لا يَزِيدُ عَلَيْها، فَأيُّ عَبْدٍ شَهِدَ لِلَّهِ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ الَّتِي هي شَهادَةُ اللَّهِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالوَحْدانِيَّةِ فَقَدْ كَمُلَتْ شَهادَتُهُ، وأتَمَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى النِّعْمَةَ عَلَيْهِ، وهي سِرُّ كُلِّ شَهادَةٍ مِن دُونِها، وهي آيَةُ عَلَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هو مُنْتَهى المَقاماتِ وغايَةُ الدَّرَجاتِ في الوُصُولِ إلى مَحَلِّ الشُّهُودِ الَّذِي مِنهُ النُّفُوذُ إلى المَوْجُودِ بِمُقْتَضى الأعْظَمِيَّةِ الَّتِي في الآيَةِ الفاتِحَةِ - انْتَهى. (p-٢٩٠)ولَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ نَفْسِهِ المُقَدَّسَةِ أخْبَرَ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِن خَلْقِهِ فَقالَ مُقَدِّمًا لِأنَّ المَقامَ لِلْعِلْمِ لِمَن هم أعْلَمُ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِمَّنْ أطْلَعَهم مِنَ المُلْكِ والمَلَكُوتِ عَلى ما لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الإنْسانُ ولا شاغِلَ لَهم مِن شَهْوَةٍ ولا حَظٍّ ولا فُتُورٍ: ﴿والمَلائِكَةُ﴾ أيِ العِبادُ المُقَرَّبُونَ المُصَفَّوْنَ مِن أدْناسِ البَشَرِ، الَّذِينَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. ولَمّا خَصَّ أهْلَ السَّماواتِ عَمَّ فَقالَ: ﴿وأُولُو العِلْمِ﴾ وهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِالأدِلَّةِ القاطِعَةِ فَفَعَلُوا ما فَعَلَ العَظِيمُ مِنَ الشَّهاداتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أدْعى لِغَيْرِهِمْ إلَيْهِ وأحَثَّ عَلَيْهِ، ولَمّا كانَتِ الشَّهادَةُ قَدْ تَكُونُ عَلى غَيْرِ وجْهِ العَدْلِ نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿قائِمًا﴾ وأفْرَدَ لِيُفْهَمَ أنَّهُ حالُ كُلٍّ مِنَ المَذْكُورِينَ لا المَجْمُوعِ بِقَيْدِ الجَمْعِ، ويَجُوزُ - وهو الأقْرَبُ - أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الاسْمِ الشَّرِيفِ إشارَةً إلى أنَّهُ ما وحَّدَ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى حَقَّ تَوْحِيدِهِ غَيْرُهُ، لِأنَّهُ لا يُحِيطُ بِهِ أحَدٌ عِلْمًا. وقالَ الحَرالِّيُّ: أفْرَدَ القِيامَ فانْدَرَجَ مَن ذَكَرَ مِنَ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ في هَذا القِيامِ إفْهامًا، كَما انْدَرَجُوا في الشَّهادَةِ إفْصاحًا، فَكانَ في إشْعارِهِ أنَّ المَلائِكَةَ وأُولِي العِلْمِ لا يُقادُ مِنهم فِيما يُجْرِيهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى أيْدِيهِمْ، لِأنَّ أمْرَهم قائِمٌ بِالقِسْطِ مِنَ اللَّهِ، يُذْكَرُ أنَّ عَظِيمَ عادٍ لَمّا كُشِفَ لَهُ عَنِ المَلائِكَةِ في يَوْمِ النِّقْمَةِ قالَ (p-٢٩١)لِهُودَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا هُودُ! ما هَذا الَّذِي أراهم في السَّحابِ كَأنَّهُمُ البَخاتِيُّ؟ فَقالَ: مَلائِكَةُ رَبِّي، فَقالَ لَهُ: أرَأيْتَ إنْ آمَنتُ بِإلَهِكَ أيُقِيدُنِي مِنهم بِمَن قَتَلُوا مِن قَوْمِي؟ قالَ: ويْحَكَ! وهَلْ رَأيْتَ مَلِكًا يُقِيدُ مِن جُنْدِهِ. انْتَهى. ﴿بِالقِسْطِ﴾ أيِ العَدْلِ السَّواءِ الَّذِي لا حَيْفَ فِيهِ أصْلًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ أنَّ التَّوْحِيدَ في نَفْسِ الأمْرِ عَلى ما وقَعَتْ بِهِ الشَّهادَةُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ مَعَ ذَلِكَ أنَّ قِيامَهُ بِالعَدْلِ فِعْلُهُ في خَلْقِهِ فَإنَّهُ عَدْلٌ وإنْ كانَ مِن بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ ظُلْمًا، فَإنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنهُ سُبْحانَهُ في مُلْكِهِ الَّذِي لا شائِبَةَ لِأحَدٍ فِيهِ، فَهو إذا نُسِبَ إلَيْهِ كانَ عَدْلًا، لِأنَّهُ فَعَلَهُ بِالحِكْمَةِ، وإذا نُسِبَ إلى الظّالِمِ كانَ ظُلْمًا، لِأنَّهُ فَعَلَهُ لِحَظِّهِ لا لِلْحِكْمَةِ فَلِذَلِكَ قالَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِنْتاجِ والتَّعْلِيلِ لِلْقِيامِ بِالقِسْطِ والتَّلْقِينِ لِلْعِبادِ لِأنْ يَقُولُوها بَعْدَ ثُبُوتِها بِما تَقَدَّمَ وأنْ يُكَرِّرُوها دائِمًا أبَدًا: ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ وقالَ الحَرالِّيُّ: كَرَّرَ هَذا التَّهْلِيلَ لِأنَّهُ في مَرْتَبَةِ القِسْطِ الفِعْلِيِّ، لِأنَّ التَّهْلِيلَ الأوَّلَ في مَرْتَبَةِ الشَّهادَةِ العِلْمِيَّةِ فاسْتَوْفى التَّهْلِيلانِ جَمِيعَ البادِي عِلْمًا وفِعْلًا. انْتَهى. وأتْبَعَهُ سُبْحانَهُ (p-٢٩٢)وتَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ دَلِيلًا عَلى قِسْطِهِ، لِأنَّهُ لا يَصِحُّ أبَدًا لِذِي العِزَّةِ الكامِلَةِ والحِكْمَةِ الشّامِلَةِ أنْ يَتَصَرَّفَ بِجَوْرٍ، وعَلى وحْدانِيَّتِهِ، لِأنَّهُ لا يَصِحُّ التَّفَرُّدُ بِدُونِ الوَصْفَيْنِ ولَيْسا عَلى الإطْلاقِ لِأحَدٍ غَيْرِهِ أصْلًا، ولَمّا كانَتِ الآياتُ كُلُّها في الإيقاعِ بِالكافِرِينَ قَدَّمَ الوَصْفَ المُلائِمَ لِذَلِكَ. قالَ الحَرالِّيُّ: وقِسْطُ اللَّهِ هو إخْفاءُ عَدْلِهِ في دارِ الدُّنْيا مِن حَيْثُ إنَّهُ خَفْضٌ ورَفْعٌ، يُعادِلُ خَفْضُهُ رَفْعَهُ ورَفْعُهُ خَفْضَهُ، فَيَؤُولُ إلى عَدْلٍ، ويَراهُ بِذَلِكَ في حالِ تَفاوُتِهِ كُلُّ ذِي لُبٍّ بِما أنَّهُ عَزِيزٌ يُظْهِرُ عِزَّتَهُ فِيما يَرْفَعُ، حَكِيمٌ يُخْفِي مَعْنى حِكَمِهِ فِيما يَخْفِضُ، فَكُلُّ ما هو بادٍ مِنَ الخَلْقِ جُودٌ فَهو مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى قِسْطٌ، طَيَّتُهُ عَدْلٌ، سِرُّهُ سَواءٌ، فَيُظْهِرُ عِزَّتَهُ فِيما حَكَمَ انْتِقامًا وحِكْمَتَهُ في المُوازَنَةِ بَيْنَ الأعْمالِ والجَزاءِ عَدْلًا. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب