الباحث القرآني

(p-٢٨١)قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا وصَفَ تَقْوى قُلُوبِهِمْ باطِنًا وأدَبَ مَقالِهِمْ ظاهِرًا وصَفَ لَهم أحْوالَ أنْفُسِهِمْ لِيَتَطابَقَ ظاهِرُ أمْرِهِمْ بِمُتَوَسِّطِهِ وباطِنِهِ فَقالَ: ﴿الصّابِرِينَ﴾ فَوَصَفَهم بِالصَّبْرِ إشْعارًا بِما يَنالُهم مِن سَجْنِ الدُّنْيا وشَدائِدِها، والصَّبْرُ أمْدَحُ أوْصافِ النَّفْسِ، بِهِ تَنْحَبِسُ عَنْ هَواها وعَمّا زُيِّنَ مِنَ الشَّهَواتِ المَذْكُورَةِ بِما تَحَقَّقَ مِنَ الإيمانِ بِالغَيْبِ المُوجِبِ لِتَرْكِ الدُّنْيا لِلْآخِرَةِ فَصَبَرُوا عَنِ الشَّهَواتِ؛ أمّا النِّساءُ فَبِالِاقْتِصارِ عَلى ما مَلَكُوهُ وأمّا البَنُونَ فَبِمُراعاةِ أنَّ ما تَقَدَّمَ خَيْرٌ مِمّا تَأخَّرَ، قالَ ﷺ - يَعْنِي فِيما رَواهُ ابْنُ ماجَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ”لَسَقَطٌ أُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ أحَبُّ إلَيَّ مِن فارِسٍ أُخَلِّفُهُ خَلْفِي“ وأمّا الذَّهَبُ والفِضَّةُ فَبِالنَّظَرِ إلَيْها أصْنامًا يَضُرُّ مَوْجُودُها، وبِالحَرِيِّ أنْ يَنالَ مِنها السَّلامَةَ بِنَفَقَةٍ لا يَكادُ يَصِلُ إنْفاقُها إلى أنْ يَكُونَ كَفّارَةَ كَسْبِها وجَمْعِها، فَكانَ الصَّبْرُ عَنْها أهْوَنَ مِنَ التَّخَلُّصِ مِنها؛ وأمّا (p-٢٨٢)الخَيْلُ فَلِما يَصْحَبُها مِنَ التَّعَزُّزِ المُمِدِّ لِخُيَلاءِ النَّفْسِ الَّذِي هو أشَدُّ ما عَلى النَّفْسِ أنْ تَخْرُجَ عَنْ زَهْوِها وخُيَلائِها إلى احْتِمالِ الضَّيْمِ والسُّكُونِ بِحُبِّ الذُّلِّ، يُقالُ: إنَّهُ آخِرُ ما يَخْرُجُ مِن رُؤُوسِ الصِّدِّيقِينَ حُبُّ الرِّئاسَةِ؛ وأمّا الأنْعامُ فَبِالِاقْتِصارِ مِنها عَلى قَدْرِ الكَفافِ، لِأنَّ كُلَّ مُسْتَزِيدٍ تَمَوُّلًا مِنَ الدُّنْيا زائِدًا عَلى كَفافٍ مِنهُ مِن مَسْكَنٍ أوْ مَلْبَسٍ أوْ مَرْكَبٍ أوْ مالٍ فَهو مُحْجِرٌ عَلى مَن سِواهُ مِن عِبادِ اللَّهِ ذَلِكَ الفَضْلَ الَّذِي هم أحَقُّ بِهِ مِنهُ، قالَ ﷺ: «لَنا غَنَمُ مِائَةٍ لا نُرِيدُ أنْ تَزِيدَ» الحَدِيثَ ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَـزِّلُهُ إلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١] وأمّا الحَرْثُ فَبِالِاقْتِصارِ مِنهُ عَلى قَدْرِ الكِفايَةِ لِما يَكُونُ راتِبًا لِلْإلْزامِ ومُرْصَدًا لِلنَّوائِبِ ومُخْرِجًا لِلْبَذْرِ، فَإنْ أعْطاهُ اللَّهُ فَضْلًا أخْرَجَهُ بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الإخْراجِ ولَوْ بِالبَيْعِ، ولا يُمْسِكُهُ مُتَمَوِّلًا لِقَلْبِهِ إلى غَيْرِهِ مِنَ الأعْيانِ فَيَكُونُ مُحْتَكِرًا، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَما أخْرَجَهُ أحْمَدُ وأبُو يَعْلى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ (p-٢٨٣)تَعالى عَنْهُما ”مَنِ احْتَكَرَ أرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدَ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وبَرِئَ اللَّهُ مِنهُ“ فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الصَّبْرُ بِحَبْسِ النَّفْسِ عَمّا زُيِّنَ لِلنّاسِ مِنَ التَّمَوُّلاتِ مِنَ الدُّنْيا الزّائِدَةِ عَلى الكَفافِ الَّتِي هي حَظُّ مَن لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ، ولِذَلِكَ يَحِقُّ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الكَلِماتُ مُعْرَبَةً بِالنَّصْبِ مَدْحًا، لِأنَّ الصِّفاتِ المُتَّبَعَةَ لِلْمَدْحِ حِلْيَتُها النَّصْبُ في لِسانِ العَرَبِ، وإنَّما يَتْبَعُ في الإعْرابِ ما كانَ لِرَفْعِ لَبْسٍ أوْ تَخْصِيصٍ. انْتَهى. ولَمّا كانَ سِنُّ التَّقْوى فَوْقَ سِنِّ الإيمانِ عَطَفَ أمْداحَهم كُلَّها بِالواوِ إيذانًا بِكَمالِهِمْ في كُلِّ وصْفٍ مِنها وتَمَكُّنِهِمْ فِيهِ بِخِلافِ ما في آيَةِ بَراءَةٍ عَلى ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: ﴿والصّادِقِينَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: في عَطْفِ الصِّفاتِ ما يُؤْذِنُ بِكَمالِ الوَصْفِ لِأنَّ العَرَبَ تَعْطِفُها إذا كَمُلَتْ وتَتَبَّعَ بَعْضُها بَعْضًا إذا تَرَكَّبَتْ والتَأمَتْ، يَعْنِي مِثْلَ: الرُّمّانِ حُلْوٌ حامِضٌ - إذا كانَ غَيْرَ صادِقِ الحَلاوَةِ ولا الحُمُوضَةِ، فَفي العَطْفِ إشْعارٌ بِكَمالِ صَبْرِهِمْ عَنِ العاجِلَةِ عَلى ما عَيَّنَهُ حُكْمُ النَّظْمِ، في الآيَةِ (p-٢٨٤)السّابِقَةِ، ومِن شَأْنِ الصّابِرِ عَنِ الدُّنْيا الصِّدْقُ، لِأنَّ أكْثَرَ المُداهَنَةِ والمُراءاةِ إنَّما ألْجَأ إلَيْها التَّسَبُّبُ إلى كَسْبِ الدُّنْيا، فَإذا رَغِبَ عَنْها لَمْ يَحْمِلْهُ عَلى تَرْكِ الصِّدْقِ حامِلٌ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ فَيَصْدُقُ في جَمِيعِ أُمُورِهِ والصِّدْقُ مُطابَقَةُ أقْوالِهِ وأفْعالِهِ لِباطِنِ حالِهِ في نَفْسِهِ وعِرْفانِ قَلْبِهِ - انْتَهى ﴿والقانِتِينَ﴾ أيِ المُخْلِصِينَ لِلَّهِ في جَمِيعِ أُمُورِهِمُ الدّائِمِينَ عَلَيْهِ. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى العَمَلَ الحامِلَ عَلَيْهِ خَوْفُ الحَقِّ ورَجاؤُهُ أتْبَعَهُ ما الحامِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ الشَّفَقَةِ عَلى الخَلْقِ، لِأنَّ مَن أكْرَمَ المُنْتَمِي إلَيْكَ فَقَدْ بالَغَ في إكْرامِكَ فَقالَ: ﴿والمُنْفِقِينَ﴾ أيْ ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في كُلِّ ما يُرْضِيهِ، فَإنَّهُ لا قِوامَ لِشَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ إلّا بِالنَّفَقَةِ. قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ مَن صَبَرَ نُوِّلَ، ومَن صَدَقَ أُعْلِيَ، ومَن قَنَتَ جَلَّ وعَظُمَ قَدْرُهُ، فَنَوَّلَهُ اللَّهُ ما يَكُونُ لَهُ مُنْفِقًا، والمُنْفِقُ أعْلى حالًا مِنَ المُزَكِّي، لِأنَّ المُزَكِّيَ يُخْرِجُ ما وجَبَ عَلَيْهِ فَرْضًا، والمُنْفِقَ يَجُودُ بِما في يَدِهِ فَضْلًا. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الأعْمالَ الزّاكِيَةَ الجامِعَةَ العالِيَةَ أتْبَعَها الإشارَةَ إلى أنَّ الِاعْتِرافَ بِالعَجْزِ عَنِ الوَفاءِ بِالواجِبِ هو العُمْدَةُ في الخَلاصِ: (p-٢٨٥)﴿والمُسْتَغْفِرِينَ﴾ أيْ مِن نَقائِصِهِمْ مَعَ هَذِهِ الأفْعالِ والأحْوالِ الَّتِي هي نِهايَةُ ما يَصِلُ إلَيْهِ الخَلْقُ مِنَ الكَمالِ ﴿بِالأسْحارِ﴾ الَّتِي هي أشَقُّ الأوْقاتِ اسْتِيقاظًا عَلَيْهِمْ، وأحَبُّها راحَةً لَدَيْهِمْ، وأوْلاها بِصِفاتِ القُلُوبِ، وأقْرَبُها إلى الإجابَةِ المُعَبَّرِ عَنْها في الأحادِيثِ بِالنُّزُولِ كَما يَأْتِي بَيانُهُ في آيَةِ التَّهَجُّدِ في سُورَةِ الإسْراءِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو جَمْعُ سَحَرٍ، وأصْلُ مَعْناهُ التَّعَلُّلُ عَنِ الشَّيْءِ بِما يُقارِبُهُ ويُدانِيهِ ويَكُونُ مِنهُ بِوَجْهٍ ما، فالوَقْتُ مِنَ اللَّيْلِ الَّذِي يُتَعَلَّلُ فِيهِ بِدُنُوِّ الصَّباحِ هو السَّحَرُ، ومِنهُ السَّحُورُ، تَعَلُّلٌ عَنِ الغَداءِ؛ ثُمَّ قالَ: وفي إفْهامِهِ تَهَجُّدُهم في اللَّيْلِ كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿كانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٨] فَهم يَسْتَغْفِرُونَ مِن حَسَناتِهِمْ كَما يَسْتَغْفِرُ أهْلُ السَّيِّئاتِ مِن سَيِّئاتِهِمْ تَبَرُّؤًا مِن دَعْوى الأفْعالِ ورُؤْيَةِ الأعْمالِ التِئامًا بِصِدْقِ قَوْلِهِمْ في الِابْتِداءِ: ﴿رَبَّنا إنَّنا آمَنّا﴾ [آل عمران: ١٦] وكَمالِ الإيمانِ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، فَبِاجْتِماعِ هَذِهِ الأوْصافِ السَّبْعَةِ مِنَ التَّقْوى والإيمانِ والصَّبْرِ (p-٢٨٦)والصِّدْقِ والقُنُوتِ والإنْفاقِ والِاسْتِغْفارِ كانَتِ الآخِرَةُ خَيْرًا لَهم مِنَ الدُّنْيا وما فِيها، وقَدْ بانَ بِهَذا مُحْكَمُ آياتِ الخَلْقِ مِن مُتَشابِهِها بَعْدَ الإعْلامِ بِمُحْكَمِ آياتِ الأمْرِ ومُتَشابِهِها، فَتَمَّ بِذَلِكَ مَنزِلُ الفُرْقانِ في آياتِ الوَحْيِ المَسْمُوعِ والكَوْنِ المَشْهُودِ. انْتَهى. ولَعَلَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أشارَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الخَمْسِ المُتَعاطِفَةِ إلى دَعائِمِ الإسْلامِ الخَمْسِ، فَأشارَ بِالصَّبْرِ إلى الإيمانِ، وبِالصِّدْقِ إلى الزَّكاةِ المُصَدِّقَةِ لِدَعْواهُ، وبِالقُنُوتِ الَّذِي مَدارُ مادَّتِهِ عَلى الإخْلاصِ إلى الصَّلاةِ الَّتِي هي مَحَلُّ المُراقَبَةِ، وبِالإنْفاقِ إلى الحَجِّ الَّذِي أعْظَمُ مُقَوِّماتِهِ المالُ، وبِالِاسْتِغْفارِ إلى الصِّيامِ الَّذِي مَبْناهُ التَّخَلِّي مِن أحْوالِ البَشَرِ والتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ المَلَكِ لا سِيَّما في القِيامِ ولا سِيَّما في السَّحَرِ؛ وسِرُّ تَرْتِيبِها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ ما بَيْنَ العَبْدِ والخالِقِ في التَّوْحِيدِ الَّذِي هو العُدُولُ أتْبَعَهُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الخَلائِقِ في الإحْسانِ، ولَمّا ذَكَرَ عِبادَةَ القَلْبِ والمالِ ذَكَرَ عِبادَةَ البَدَنِ الدّالَّةَ عَلى الإخْلاصِ في الإيمانِ، ولَمّا ذَكَرَ عِبادَةَ البَدَنِ مُجَرَّدًا بَعْدَ عِبادَةِ المالِ مُجَرَّدًا ذَكَرَ عِبادَةً ظاهِرَةً مُرَكَّبَةً مِنهُما، شِعارُها تَعْرِيَةُ الظّاهِرِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ (p-٢٨٧)عِبادَةً بَدَنِيَّةً خَفِيَّةً، عِمادُها تَعْرِيَةُ الباطِنِ، فَخَتَمَ بِمِثْلِ ما بَدَأ بِهِ، وهو ما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَقَّ الِاطِّلاعِ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب