الباحث القرآني
ولَمّا كانَ الكَفَرَةُ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ مِنَ العَرَبِ بِمَعْرِضِ أنْ يَقُولُوا حِينَ قِيلَ لَهم ذَلِكَ: كَيْفَ نُغْلَبُ وما هم فِينا إلّا كالشَّعْرَةِ البَيْضاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ ؟ قِيلَ لَهُمْ: إنْ كانَتْ قِصَّةُ آلِ فِرْعَوْنَ لَمْ تَنْفَعْكم لِجَهْلٍ أوْ طُولِ عَهْدٍ فَإنَّهُ ﴿قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ﴾ أيْ عَظِيمَةٌ بِدَلالَةِ تَذْكِيرِ كانَ ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ تَثْنِيَةِ فِئَةٍ لِلطّائِفَةِ الَّتِي يَفِيءُ إلَيْها أيْ يَرْجِعُ مَن يَسْتَعْظِمُ شَيْئًا، اسْتِنادًا إلَيْها حِمايَةً بِها لِقُوَّتِها ومَنَعَتِها ﴿التَقَتا﴾ أيْ في بَدْرٍ ﴿فِئَةٌ﴾ أيْ مِنهُما مُؤْمِنَةٌ، لِما يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْلى لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، ومَن كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَطْعًا إلّا مُؤْمِنًا ﴿وأُخْرى﴾ أيْ مِنهُما ﴿كافِرَةٌ﴾ (p-٢٦٣)أيْ تُقاتِلُ في سَبِيلِ الشَّيْطانِ، فالآيَةُ كَما تَرى مِن وادِي الِاحْتِباكِ، وهو أنْ يُؤْتى بِكَلامَيْنِ يُحْذَفُ مِن كُلٍّ مِنهُما شَيْءٌ إيجازًا، يَدُلُّ ما ذُكِرَ مِن كُلٍّ عَلى ما حُذِفَ مِنَ الآخَرِ، وبِعِبارَةٍ أُخْرى: هو أنْ يُحْذَفَ مِن كُلِّ جُمْلَةٍ شَيْءٌ إيجازًا ويُذْكَرَ في الجُمْلَةِ الأُخْرى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ.
ولَمّا نَبَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى الِاعْتِبارِ بِذِكْرِ الآيَةِ نَبَّهَ عَلى مَوْضِعِها بِقَوْلِهِ: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ وضَمَّنَ يَرى البَصِيرِيَّةَ القاصِرَةَ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ فِعْلَ الظَّنِّ، وانْتَزَعَ مِنهُ حالًا ودَلَّ عَلَيْها بِنَصْبِ مَفْعُولٍ ثانٍ فَصارَ التَّقْدِيرُ: ظانِّيهِمْ ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ فَعَلى قِراءَةِ نافِعٍ بِالتّاءِ الفَوْقانِيَّةِ يَكُونُ المَعْنى: تَرَوْنَ أيُّها المُخاطَبُونَ الكُفّارَ المُقاتِلِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وعَلى قِراءَةِ غَيْرِهِ بِالغَيْبِ المَعْنى، يَرى المُسْلِمُونَ الكُفّارَ مَثَلَيِ المُسْلِمِينَ ﴿رَأْيَ العَيْنِ﴾ أيْ بِالحَزْرِ والتَّخْمِينِ، لا بِحَقِيقَةِ العَدَدِ، هَذا أقَلُّ (p-٢٦٤)ما يُجَوِّزُونَهُ فِيهِمْ، وقَدْ كانُوا ثَلاثَةَ أمْثالِهِمْ ومَعَ ذَلِكَ فَجَزاهُمُ اللَّهُ عَلى مُصادَمَتِهِمْ ونَصَرَهم عَلَيْهِمْ، أوْ يَرى الكُفّارُ المُسْلِمِينَ مَثَلَيِ الكُفّارِ مَعَ كَوْنِهِمْ عَلى الثُّلُثِ مِن عِدَّتِهِمْ، كَما هو المَشْهُورُ في الآثارِ تَأْيِيدًا مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِأوْلِيائِهِ لِيُرْعِبَ الأعْداءَ فَيَنْهَزِمُوا، أوْ يَرى الكُفّارُ المُسْلِمِينَ ضِعْفَيْ عَدَدِ المُسْلِمِينَ قالَ الحَرالِّيُّ: لِتَقَعَ الإراءَةُ عَلى صِدْقِهِمْ في مَوْجُودِ الإسْلامِ الظّاهِرِ والإيمانِ الباطِنِ، فَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِما هو مُسْلِمٌ ذاتًا، وبِما هو مُؤْمِنٌ ذاتًا، فالمُؤْمِنُ المُسْلِمُ ضِعْفانِ أبَدًا ﴿فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإنْ يَكُنْ مِنكم ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] وذَلِكَ بِما أنَّ الكافِرَ ظاهِرٌ لا باطِنَ لَهُ فَكانَ ذاتَ عَيْنٍ، لا ذاتَ قَلْبٍ لَهُ، فَكانَ المُؤْمِنُ ضِعْفَهُ، فَوَقَعَتِ الإراءَةُ لِلْفِئَةِ المُؤْمِنَةِ عَلى ما هي عَلَيْهِ شَهادَةً مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِثَباتِ إسْلامِهِمْ وإيمانِهِمْ، وكانَ ذَلِكَ أدْنى الإراءَةِ لِمَزِيدِ مَوْجُودِ الفِئَةِ المُقاتِلَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ بِمِقْدارِ الضِّعْفِ الَّذِي هو أقَلُّ (p-٢٦٥)الزِّيادَةِ الصَّحِيحَةِ، وأمّا بِالحَقِيقَةِ فَإنَّ التّامَّ الدِّينَ بِما هو مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ صاحِبُ يَقِينٍ إنَّما هو بِالحَقِيقَةِ عَشْرٌ تامٌّ نَظِيرَ مَوْجُودِ الوُجُودِ الكامِلِ، فَهو عَشْرُ ذَواتٍ بِما هو صاحِبُ يَقِينٍ ودِينٍ
﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] انْتَهى. وهَذا التَّقْلِيلُ والتَّكْثِيرُ واقِعٌ بِحَسَبِ أوَّلِ القِتالِ وآخِرِهِ، وقَبْلَ اللِّقاءِ وبَعْدَهُ، لِما أرادَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الحُكْمِ كَما في آيَةِ الأنْفالِ، والمَعْنى: إنّا فاعِلُونَ بِكم أيُّها الكُفّارُ عَلى أيْدِيهِمْ ما فَعَلْناهُ بِأُولَئِكَ، وقَدْ كانُوا قائِلِينَ أعْظَمَ مِن مَقالاتِكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهم كَثْرَتُهم شَيْئًا، ولا شِدَّةُ شَكِيمَتِهِمْ ونَخْوَتُهم فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى ولِيُّ المُؤْمِنِينَ لِطِيبِهِمْ ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ والطَّيِّبُ ولَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ﴾ [المائدة: ١٠٠]
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَنَصَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى الفِئَةَ القَلِيلَةَ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ﴿يُؤَيِّدُ﴾ والأيْدُ تَضْعِيفُ القُوَّةِ الباطِنَةِ ﴿بِنَصْرِهِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: والنَّصْرُ لا يَكُونُ إلّا لِمُحِقٍّ، وإنَّما (p-٢٦٦)يَكُونُ لِغَيْرِ المُحِقِّ الظَّفَرُ والِانْتِقامُ انْتَهى.
﴿مَن يَشاءُ﴾ أيْ فَلا عَجَبَ فِيهِ في التَّحْقِيقِ، فَلِذَلِكَ اتَّصَلَ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرِ الباهِرِ، وفي أداةِ البُعْدِ كَما قالَ الحَرالِّيُّ إشارَةُ بُعْدٍ إلى مَحَلِّ عُلُوِّ الآيَةِ ﴿لَعِبْرَةً﴾ قالَ: هي المُجاوَزَةُ مِن عُدْوَةٍ دُنْيا إلى عُدْوَةٍ قُصْوى، ومِن عِلْمٍ أدْنى إلى عِلْمٍ أعْلى، فَفي لَفْظِها بُشْرى بِما يَنالُونَ مِن ورائِها مِمّا هو أعْظَمُ مِنها إلى غايَةِ العِبْرَةِ العُظْمى مِنَ الغَلَبَةِ الخاتِمَةِ الَّتِي عِنْدَها تَضَعُ الحَرْبُ أوْزارَها حَيْثُ يَكُونُ مِن أهْلِ الكَمالِ بِعَدَدِ أهْلِ بَدْرٍ ثَلاثُمِائَةِ ثَلاثَةَ عَشَرَ، فَهو غايَةُ العِبْرَةِ لِمَن لَهُ بَصَرٌ نافِذٌ ونَظَرٌ جامِعٌ بَيْنَ البِدايَةِ والخاتِمَةِ ﴿كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] انْتَهى.
﴿لأُولِي الأبْصارِ﴾ أيْ يَصِيرُونَ بِها مِن حالٍ إلى أشْرَفَ مِنها في قُدْرَةِ اللَّهِ وعَظَمَتِهِ وفِعْلِهِ بِالِاخْتِيارِ. قالَ الحَرالِّيُّ: أوَّلُ مَوْقِعِ العَيْنِ عَلى الصُّورَةِ نَظَرٌ، ومَعْرِفَةُ خِبْرَتِها الحِسِّيَّةِ بَصَرٌ، ونُفُوذُهُ إلى حَقِيقَتِها رُؤْيَةٌ، فالبَصَرُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ النَّظَرِ والرُّؤْيَةِ (p-٢٦٧)كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وهم لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] فالعِبْرَةُ هي المَرْتَبَةُ الأُولى لِأُولِي الأبْصارِ الَّذِينَ يُبْصِرُونَ الأواخِرَ بِالأوائِلِ، فَأعْظَمُ غَلَبَةِ بَطْشِهِ في الِابْتِداءِ غَلَبَةُ بَدْرٍ، وأعْظَمُها في الِانْتِهاءِ الغَلَبَةُ الخاتِمَةُ الَّتِي لا حَرْبَ وراءَها، الَّتِي تَكُونُ بِالشّامِ في آخِرِ الزَّمانِ. انْتَهى.
{"ayah":"قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَایَةࣱ فِی فِئَتَیۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةࣱ تُقَـٰتِلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةࣱ یَرَوۡنَهُم مِّثۡلَیۡهِمۡ رَأۡیَ ٱلۡعَیۡنِۚ وَٱللَّهُ یُؤَیِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَعِبۡرَةࣰ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَبۡصَـٰرِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق