الباحث القرآني

ولَمّا كانَ رُبَّما قِيلَ: ”فَما حالُ ما يَبْذُلُونَهُ في المَكارِمِ؛ ويُواسُونَ بِهِ في المَغارِم؟“؛ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا؛ جَعَلَهُ هَباءً مَنثُورًا؛ ضائِعًا؛ - وإنْ كَثُرَ - بُورًا؛ كَأنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا؛ بِقَوْلِهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى - جَوابًا لِهَذا السُّؤالِ: ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ﴾؛ أيْ: مِنَ المالِ؛ وحَقَّرَ قَصْدَهم بِتَحْقِيرِ مَحَطِّهِ؛ فَقالَ: ﴿فِي هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا﴾؛ أيْ: عَلى وجْهِ القُرْبَةِ؛ أوْ غَيْرِها؛ لِكَوْنِهِمْ ضَيَّعُوا الوَجْهَ الَّذِي بِهِ يُقْبَلُ؛ وهو الإخْلاصُ؛ ومَثَلُ إنْفاقِهِمْ لَهُ مِثْلُ حَرْثٍ أُصِيبَ بِالرِّيحِ؛ ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ﴾؛ أيْ: بَرْدٌ شَدِيدٌ؛ ﴿أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾؛ مَوْصُوفِينَ بِأنَّهم (p-٣٦)﴿ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾؛ أيْ: بِالبِناءِ عَلى غَيْرِ أساسِ الإيمانِ؛ ﴿فَأهْلَكَتْهُ﴾؛ فَمَثَلُ ما يُنْفِقُونَ - في كَوْنِهِ لَمْ يَنْفَعْهم في الدُّنْيا بِإنْتاجِ ما أرادُوا في الدُّنْيا؛ وضَرَّهم في الدّارَيْنِ؛ أمّا في الدُّنْيا فَبِضَياعِهِ في غَيْرِ شَيْءٍ؛ وأمّا في الآخِرَةِ فَبِالمُعاقَبَةِ عَلَيْهِ لِتَضْيِيعِ أساسِهِ - وقَصْدِهِمُ الفاسِدِ بِهِ؛ مِثْلُ الزَّرْعِ المَوْصُوفِ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَنْفَعْ أهْلَهُ المَوْصُوفِينَ؛ بَلْ ضَرَّهم في الدُّنْيا بِضَياعِهِ؛ وفي الآخِرَةِ بِما قَصَدُوا بِهِ مِنَ المَقْصُودِ الفاسِدِ؛ ومَثَلُ إنْفاقِهِمْ لَهُ - في كَوْنِهِ ضَرَّهُمْ؛ ولَمْ يَنْفَعْهم - مِثْلُ الرِّيحِ؛ في كَوْنِها ضَرَّتِ الزَّرْعَ؛ ولَمْ تَنْفَعْهُ؛ فَلَمّا كانَتِ الرِّيحُ المَوْصُوفَةُ أمْرًا مُشاهَدًا جَلِيًّا؛ جُعِلَتْ في إهْلاكِها مَثَلًا لِضَياعِ إنْفاقِهِمُ الَّذِي هو أمْرٌ مَعْنَوِيٌّ خَفِيٌّ؛ ولَمّا كانَ الزَّرْعُ المُحْتَرِقُ أمْرًا مَحْسُوسًا؛ جُعِلَ فِيما حَصَلَ لَهُ بَعْدَ التَّعَبِ مِنَ العَطَبِ؛ مِثالًا لِأمْرٍ مَعْقُولٍ؛ وهو أمْوالُهُمْ؛ في كَوْنِ إنْفاقِهِمْ إيّاها لَمْ يُثْمِرْ لَهم شَيْئًا غَيْرَ الخَسارَةِ؛ والتَّعَبِ؛ فالمَثَلانِ؛ ضَياعُ الزَّرْعِ؛ والإنْفاقِ؛ وضَياعُ الزَّرْعِ أظْهَرُ؛ فَهو مَثَلٌ لِضَياعِ الإنْفاقِ؛ لِأنَّهُ أخْفى؛ وقَدْ بانَ أنَّ الآيَةَ مِنَ الِاحْتِباكِ: حُذِفَ أوَّلًا مَثَلُ الإنْفاقِ؛ لِدَلالَةِ الرِّيحِ عَلَيْهِ؛ وثانِيًا الحَرْثُ؛ لِدَلالَةِ ما يُنْفَقُ عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - مَوْصُوفًا بِأنَّهُ الحَكَمُ؛ العَدْلُ؛ القائِمُ بِالقِسْطِ؛ وأنَّهُ لا يَنْسى خَيْرًا فُعِلَ؛ قالَ - دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنَّ ذَلِكَ بِخْسٌ -: ﴿وما ظَلَمَهُمُ﴾؛ أيْ: المُمَثَّلَ بِهِمْ؛ والمُمَثَّلَ لَهُمْ؛ ﴿اللَّهُ﴾؛ المَلِكُ الأعْظَمُ الغَنِيُّ الغِنى المُطْلَقَ؛ (p-٣٧)لِأنَّهُ المالِكُ المُطْلَقُ؛ وقَدْ كَفَرُوا؛ أمّا المُمَثَّلُ لَهم فَبِكَوْنِهِمْ أنْفَقُوا عَلى غَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ؛ وأمّا المُمَثَّلُ بِهِمْ فَبِكَوْنِهِمْ لَمْ يَحْرُسُوا زَرْعَهم بِالطّاعاتِ؛ وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ أهْلَ الطّاعاتِ تَحْرُسُ ضَوائِعَهم مِنَ الآفاتِ؛ وتَخْرِقُ فِيها العاداتِ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿ولَكِنْ﴾؛ ولَمّا كانَ المُمَثَّلُ لِأجْلِهِمُ؛ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ أعَمَّ مِن أنْ يَمُوتُوا عَلَيْهِ؛ أوْ يُسْلِمُوا؛ لَمْ يُعَبِّرْ في الظُّلْمِ بِما تَقْتَضِيهِ الجِبِلَّةُ مِن فِعْلِ الكَوْنِ؛ وقالَ: ﴿أنْفُسَهُمْ﴾؛ أيْ: خاصَّةً؛ ﴿يَظْلِمُونَ﴾؛ فَأفادَ أنَّهم هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِتَضْيِيعِهِمُ الأساسَ بِكُفْرِهِمْ؛ وأنَّ ظُلْمَهم مَقْصُورٌ عَلى أنْفُسِهِمْ؛ لا يَتَعَدّاها إلى غَيْرِها؛ وإنْ ظَهَرَ لِإنْفاقِهِمْ نِكايَةٌ في عَدُوِّهِمْ؛ فَإنَّ العاقِبَةَ لِما كانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ كانَتْ نِكايَتُهم كالعَدَمِ؛ بَلْ هي زِيادَةٌ في وبالِهِمْ؛ فَهي مِن ظُلْمِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب