الباحث القرآني

ولَمّا تَحَقَّقَ أنَّ يَوْمَ الجَمْعِ كائِنٌ لا مَحالَةَ تَحَقَّقَ أنَّ مِن نَتائِجِهِ تَحْقِيقًا لِعِزَّتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وانْتِقامِهِ مِنَ الكَفَرَةِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ لِسَتْرِهِمْ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ مَرْأى عُقُولِهِمْ أنَّهم يَمْتَنِعُونَ مِن أمْرِ اللَّهِ لِأنَّهم يَفْعَلُونَ في عِصْيانِهِ وعَداوَةِ أوْلِيائِهِ فِعْلَ مَن يُرِيدُ المُغالَبَةَ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهُمْ﴾ أيْ وإنْ كَثُرَتْ، وقَدَّمَها لِأنَّ بِها قِوامَ ما بَعْدَها وتَمامَ لَذّاتِهِ، وأكَّدَ بِإعادَةِ النّافِي لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْ كُلِّ حالَةٍ وعَنِ المَجْمُوعِ فَيَكُونَ أصْرَحَ في المَرامِ (p-٢٥٤)﴿ولا أوْلادُهُمْ﴾ وإنْ جَلَّتْ وعَظُمَتْ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ ﴿شَيْئًا﴾ أيْ مِن إغْناءٍ مُبْتَدِئًا مِن جِهَةِ اللَّهِ، وإذا كانَتْ تِلْكَ الجِهَةُ عارِيَةً عَمّا يُغْنِي كانَ كُلُّ ما يَأْتِيهِمْ مِن قِبَلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن بَأْسٍ واقِعًا بِهِمْ لا مانِعَ لَهُ، فَمَهْما أرادَ بِهِمْ كانَ مِن خِذْلانٍ في الدُّنْيا وبَعْثٍ بَعْدَ المَوْتِ وحَشْرٍ بَعْدَ البَعْثِ وعَذابٍ في الآخِرَةِ، فَأُولَئِكَ المُعَرَّضُونَ مِنهُ لِكُلِّ بَلاءٍ ﴿وأُولَئِكَ هم وقُودُ النّارِ﴾ وفي ذَلِكَ [أعْظَمُ] تَنْبِيهٍ عَلى أنَّ الزّائِغِينَ الَّذِينَ خالَفُوا الرّاسِخِينَ فَوَقَفَتْ بِهِمْ نِعَمُهُ المُقْتَضِيَةُ لِتَصْدِيقِهِ [عَنْ تَصْدِيقِهِ] لَيْسَتْ مُغْنِيَةً عَنْهم تِلْكَ النِّعَمُ شَيْئًا، وأنَّهم مَغْلُوبُونَ لا مَحالَةَ في الدُّنْيا ومَحْشُورُونَ في الآخِرَةِ إلى جَهَنَّمَ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ التَّوْحِيدِ كانَ الألْيَقُ بِخِطابِها أنْ يَكُونَ الدُّعاءُ فِيهِ إلى الزُّهْدِ أتَمَّ مِنَ الدُّعاءِ في غَيْرِها، والإشارَةُ فِيهِ إلى ذَلِكَ أكْثَرَ مِنَ الإشارَةِ في غَيْرِهِ، فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ قاطِعَةً لِلْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ بِما أشارَتْ إلَيْهِ مِن فِتْنَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ المُوجِبَةِ لِلْهَلاكِ. قالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ مِن مَضْمُونِ تَرْجَمَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ إطْلاعُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى سِرِّ التَّقْدِيرِ الَّذِي صُرِفَ عَنِ الجَوابِ فِيهِ وإظْهارِ (p-٢٥٥)سِرِّهِ مُوسى كَلِيمُ اللَّهِ وعِيسى كَلِمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ مِمّا أظْهَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِعامَّةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إعْلاءً لَها عَلى كُلِّ أُمَّةٍ، واخْتِصاصًا لَها بِما عَلا اخْتِصاصَ نَبِيِّها ﷺ حَتّى قالَ قائِلُهُمْ: أخْبِرْهم أنِّي بَرِيءٌ مِنهم وأنَّهم بَراءٌ مِنِّي لِقَوْمٍ لَمْ يُظْهَرُوا عَلى سِرِّ القَدَرِ، وقالَ: والَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ أنَّ لِأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأنْفَقَهُ ما قُبِلَ مِنهُ حَتّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، فَأفْهَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عُلَماءَ هَذِهِ الأُمَّةِ أنَّ أعْمالَها لا تُقْبَلُ إلّا عَلى مَعْرِفَةِ سِرِّ التَّقْدِيرِ لِتَكُونَ قُلُوبُها بَرِيئَةً مِن أعْمالِ ظَواهِرِها، كَما قِيلَ في أثارَةٍ مِنَ العِلْمِ: مَن لَمْ يَخْتِمْ عَمَلَهُ بِالعِلْمِ لَمْ يَعْمَلْ، ومَن لَمْ يَخْتِمْ عِلْمَهُ بِالجَهْلِ لَمْ يَعْلَمْ فَخَتْمُ العامِلِ عَمَلَهُ بِالعِلْمِ أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ لا عَمَلَ لَهُ، وأنَّ المُجْرى عَلى يَدَيْهِ أمْرٌ مُقَدَّرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وأقامَهُ فِيهِ لِما خَلَقَهُ لَهُ مِن حِكْمَتِهِ مِن وصْفِهِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ ومِن تَمامِ كَلِمَتِهِ في رَحْمَتِهِ أوْ عُقُوبَتِهِ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ حِكْمَةَ الحَكِيمِ، ولا حُجَّةَ لِلْعَبْدِ عَلى رَبِّهِ ولا حُجَّةَ لِلصَّنْعَةِ عَلى صانِعِها ولِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى الحُجَّةُ البالِغَةُ؛ وكَذَلِكَ العالِمُ مَتى (p-٢٥٦)لَمْ يَنْطَوِ سِرُّهُ عَلى أنَّهُ لا يَعْلَمُ وإنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عِلْمٌ، فَذَلِكَ خَتْمُ العَمَلِ بِالعِلْمِ وخَتْمُ العِلْمِ بِالجَهْلِ، فَكَما أطْلَعَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في فاتِحَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ عَلى سِرِّ تَقْدِيرِهِ في خَلْقِهِ أظْهَرَهُ في فاتِحَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ عَلى عَلَنِ قَيُّومِيَّتِهِ الَّذِي هو شاهِدُهُ في وحْيِ رَبِّهِ، كَما هو بَصِيرٌ بِسِرِّ القَدَرِ في تَفَرُّقِ أفْعالِ خَلْقِهِ، فَكانَ مَنزِلُ سُورَةِ البَقَرَةِ قِوامَ الأفْعالِ ومَنزِلُ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ قِوامَ التَّنْزِيلِ والإنْزالِ فَكانَ عَلَنُ القَيُّومِيَّةِ قِوامَ التَّنْزِيلِ لِلْكِتابِ الجامِعِ الأوَّلِ، والتَّنْزِيلُ قِوامُ إنْزالِ الكُتُبِ، وإنْزالُ الكِتابِ الجامِعِ لِتَفْسِيرِ الكُتُبِ قِوامُ تَفْصِيلِ الآياتِ المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ، والإحْكامُ والتَّشابُهُ إقامَةُ الهُدى والفِتْنَةِ، والهُدى والفِتْنَةُ إقامَةُ مُتَصَرَّفِ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، والأحْوالُ وما دُونَها مِنَ الأفْعالِ عَلى وجْهِ جَمْعٍ يَكُونُ قِوامًا لِما تَفَصَّلَ مِن مُجْمَلِهِ وتَكَثَّرَ مِن وحْدَتِهِ وتَفَرَّقَ مِنَ اجْتِماعِهِ، ولِعُلُوِّ مَضْمُونِ هَذِهِ السُّورَةِ لَمْ يَقَعْ فِيها تَوَجُّهُ الخِطابِ بِها لِصِنْفِ النّاسِ، واخْتَصَّ خِطابُها بِالَّذِينَ آمَنُوا في عُلُوٍّ مِن مَعانِي الإيمانِ لِما ذُكِرَ مِن شَرَفِ سِنِّ الإيمانِ عَلى سِنِّ النّاسِ في تَنامِي أسْنانِ (p-٢٥٧)القُلُوبِ، وكانَ خِطابُ سُورَةِ البَقَرَةِ بِمُقْتَضى رُتْبَةِ العَقْلِ الَّذِي بِهِ يَقَعُ أوَّلُ الإصْغاءِ والِاسْتِماعِ، كَما ظَهَرَ في آياتِ الِاعْتِبارِ فِيها في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] فَكانَ خِطابُ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ إقْبالًا عَلى أُولِي الألْبابِ الَّذِينَ لَهم لُبُّ العَقْلِ، بِما ظَهَرَ في أوَّلِها وخاتِمَتِها في قَوْلِهِ: ﴿وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾ [آل عمران: ٧] وفي خاتِمَتِها في آياتِ اعْتِبارِها في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] فَبِالعَقْلِ يَقَعُ الِاعْتِبارُ لِمَنزِلِ الكِتابِ وبِاللُّبِّ يَكُونُ التَّذَكُّرُ، إيلاءً إلى الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ، وبِالجُمْلَةِ فَمَثانِي هَذِهِ السُّورَةِ مِن تَفاصِيلِ آياتِها وجُمَلِ جَوامِعِها مِمّا هو أعْلَقُ بِطِيبِ الإيمانِ واعْتِبارِ اللُّبِّ، كَما أنَّ مَنزِلَ سُورَةِ البَقَرَةِ أعْلَقُ بِما هو مِن أمْرِ الأعْمالِ وإقامَةِ مَعالِمِ الإسْلامِ بِما ظَهَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن عَلَنِ أمْرِ اللَّهِ، وبِما افْتُتِحَتْ بِهِ مِنَ اسْمِ اللَّهِ الأعْظَمِ الَّذِي جَمِيعُ الأسْماءِ أسْماءٌ لَهُ لِإحاطَتِهِ واخْتِصاصِها بِوَجْهٍ ما، فَكانَ فِيها عَلَنُ التَّوْحِيدِ وكَمالُهُ وقِوامُ تَنْزِيلِ الأمْرِ وتَطَوُّرِ الخَلْقِ في جَمِيعِ مُتَنَزِّلِها ومَثانِيها، وظَهَرَ (p-٢٥٨)فِيها تَفْصِيلُ وُجُوهِ الحِكَمِ العَلِيَّةِ الَّتِي تَضَمَّنَ جُمْلَةَ ذِكْرِها الآيَةُ الجامِعَةُ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] فَكانَ مِن جُمْلَةِ بِناءِ الحِكْمَةِ ما هو السَّبَبُ في ظُهُورِ الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الفِتْنَةِ بِأمْوالِهِمْ وأوْلادِهِمْ حَتّى ألْهَتْهم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فانْتَهَوْا فِيهِ إلى حَدِّ الكُفْرِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ ”الَّذِينَ آمَنُوا“ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكم أمْوالُكم ولا أوْلادُكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ٩] انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب