الباحث القرآني
ولَمّا أفْرَحَهم بِما كَأنَّهُ تَسْلِيمٌ لِمُدَعّاهم، وكانَ مِنَ البَيِّنِ أنَّ لِسانَ الحالِ يَقُولُ: ألَمْ يَكْفِهِمْ ما جِئْتَهم [بِهِ] مِنَ الآياتِ المَرْئِيّاتِ والمَسْمُوعاتِ، وعَجَزُوا عَنِ الإتْيانِ بِشَيْءٍ مِنها، عَطَفَ عَلى ذَلِكَ قَوْلَهُ مُنْكِرًا عَلى جَهْلِهِمْ (p-٤٥٧)وعِنادِهِمْ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ أيْ: إنْ كانُوا طالِبِينَ لِلْحَقِّ غَيْرَ مُتَعَنِّتِينَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مُغْنِيَةٌ عَنْ كُلِّ آيَةٍ ﴿أنّا أنْـزَلْنا﴾ بِعَظْمَتِنا ﴿عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ أيْ: الجامِعَ لِسَعادَةِ الدّارَيْنِ بِحَيْثُ صارَ خُلُقًا لَكَ غالِبًا عَلى حَرَكاتِكَ وسَكَناتِكَ ﴿يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: يَتَجَدَّدُ مُتابَعَةُ قِراءَتِهِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ في كُلِّ مَكانٍ وكُلِّ زَمانٍ مَن كُلِّ تالٍ مُصَدِّقًا لِما في الكُتُبِ القَدِيمَةِ مِن نَعْتِكَ وغَيْرِهِ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِكَ، يَتَحَدَّوْنَ بِكُلِّ شَيْءٍ نَزَلَ مِنهُ مَعَ تَحَدِّيهِمْ بِما قَبْلَهُ مِن آياتِهِ صَباحَ مَساءَ، يَصْفَعُونَ بِذَلِكَ مَدى الدَّهْرِ في أقْفائِهِمْ ويَدْفَعُونَ، فَكُلَّما أرادُوا التَّقَدُّمَ رَدُّوا عَجْزًا إلى ورائِهِمْ، فَأعْظِمْ بِهِ آيَةً باقِيَةً، إذْ كَلُّ آيَةٍ سِواهُ مُنْقَضِيَةٌ ماضِيَةٌ، [وقالَ الشَّيْخُ أبُو العَبّاسِ المُرْسِي: خَشَعَ بَعْضُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم مِن سَماعِ اليَهُودِ بِقِراءَةِ التَّوْراةِ فَعَتَبُوا إذْ تَخَشَّعُوا مِن غَيْرِ القُرْآنِ، وهم إنَّما تَخَشَّعُوا مِنَ التَّوْراةِ وفي كَلامِ اللَّهِ فَما ظَنُّكَ بِمَن أعْرَضَ عَنْ كِتابِ اللَّهِ وتَخَشَّعَ بِالمَلاهِي والغِناءِ].
ولَمّا كانَ هَذا أعْظَمَ مِن كُلِّ آيَةٍ يَقْتَرِحُونَها ولَوْ تَوالى عَلَيْهِمْ إتْيانُها كُلَّ يَوْمٍ لِدَوامِ هَذا عَلى مَرِّ الأيّامِ والشُّهُورِ، حَتّى تَفْنى (p-٤٥٨)الأزْمانُ والدُّهُورُ، أشارَ تَعالى إلى هَذَهِ العَظَمَةِ، مَعَ ما فِيها مِنَ النِّعْمَةِ، بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا عَلى جَهْلِهِمْ فِيما لَزِمَ مِن كَلامِهِمُ الأوَّلِ مِن إنْكارِ أنْ يَكُونَ في القُرْآنِ آيَةٌ تَدُلُّهم عَلى الصِّدْقِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ: إنْزالِ الكِتابِ عَلى هَذا الوَجْهِ البَعِيدِ المَنالِ البَدِيعِ المِثالِ ﴿لَرَحْمَةً﴾ لَهم لِصَقْلِهِ صَدَأ القُلُوبِ في كُلِّ لَحْظَةٍ، وتَطْهِيرِهِ خُبْثَ النُّفُوسِ في كُلِّ لَمْحَةٍ ﴿وذِكْرى﴾ أيْ: عَظِيمَةً مُسْتَمِرًّا [تَذْكُرُها].
ولَمّا عَمَّ بِالقَوْلِ، خَصَّ مِن حَيْثُ النَّفْعُ فَقالَ: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: يُمْكِنُ أنْ يَتَجَدَّدَ لَهم إيمانٌ، لَيْسَ مِن هَمِّهِمُ التَّعَنُّتُ، قالَ الحِرالِيُّ في كِتابٍ لَهُ في أُصُولِ الدِّينِ: ولَمّا كانَ القُرْآنُ لِسانَ إحاطَةٍ لَمْ يَفِ بِالقِيامِ بِهِ خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ، لِأنَّهُ بِبِناءٍ عَلى كُلِّيِّهِ أمْرُ اللَّهِ حَتّى أنَّ السُّورَةَ الواحِدَةَ مِنهُ لَمّا كانَ مَوْقِعُ الخِطابِ بِها مِن مُدَدِ بِنائِهِ عَلى إحاطَةِ أمْرِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُها [أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ، وإذا كانَ الأقَلُّ مِن كَلامِ العالِمِ لا يَسْتَطِيعُهُ] مَن دُونَ رُتْبَتِهِ، فَعَجْزُ الخَلْقِ عَنْ كَلامِ اللَّهِ أحَقُّ وأوْلى، ثُمَّ كُلُّ ناظِرٍ فِيهِ - مِن أيِّ وجْهٍ نَظَرَهُ - أدْرَكَ بِمُقْتَضى عُلُوِّهِ عَلى رُتْبَتِهِ وجْهًا مِنَ العَجْزِ فِيهِ، إنْ كانَ فَصِيحًا بَلِيغًا فَمِن جِهَةِ البَلاغَةِ، ومَعْناها بُلُوغُ الكَلامِ في مُطابَقَةِ أنْبائِهِ ويُسَمّى الفَصاحَةَ، وحُسْنُ نَظْمِ (p-٤٥٩)حُرُوفِ كَلِماتِهِ ويُسَمّى الجَزالَةَ، وكَمالُ انْتِظامِ كَلِماتِهِ وآياتِهِ، ويُسَمّى حُسْنَ النَّظْمِ - إلى أنْهى غاياتِهِ وأتَمِّ نِهاياتِهِ- وإنْ كانَ عالِمًا بِأخْبارِ الأوَّلِينَ فَبِصِحَّةِ مُقْتَضاها فِيهِ، وإنْ كانَ حَكِيمًا فَبِالإعْلامِ الأتَمِّ بِوَجْهِ تَقاضِي المُتَرَتِّباتِ، وبِالجُمْلَةِ فَما يَكُونُ لِأحَدٍ أصْلٌ مِن عَقْلٍ وحَظٌّ مِن عِلْمٍ - أيَّ عِلْمٍ كانَ - إلّا ويَجِدُ لَهُ مَوْقِعًا في القُرْآنِ، يَفِي لَهُ بِحَظِّ بَيانٍ عُلُوَّ مَرْتَبَةِ أنْبائِهِ عَلى نِهايَةٍ مُدْرَكَةٍ مِنهُ بِمِقْدارٍ لا يَرْتابُ في وُقُوعِهِ فَوْقَ طَوْرِ الخَلْقِ، فَكانَ آيَةً باقِيَةً دائِمَةً لَمْ يَتَفاوَتْ في تَلَقِّيهِ أوَّلُ سامِعٍ لَهُ مِن آخِرِ سامِعٍ في وجْهِ سَماعِهِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ فُقِدَتْ آيَتُهُ بِفَقْدِهِ أوْ بِفَقْدِ وقْتِ ظُهُورِها عَلى يَدَيْهِ، وآيَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ باقِيَةٌ بِبَقاءِ اللَّهِ، فَجِهاتُ ظُهُورِ إعْجازِهِ تَأْتِي عَلى حُظُوظِ أصْنافِ الخَلْقِ مِن وُجُوهِ الإدْراكِ، لا يَتَعَيَّنُ لِظُهُورِ الإعْجازِ فِيهِ جِهَةٌ، ولا يَفْقِدُ ناظِرٌ فِيهِ حَظًّا يَتَطَرَّقُ بِمِقْدارِ إدْراكِهِ مِنهُ إلى يَقِينٍ وجْهِ إعْجازِهِ، وذَلِكَ لَمّا كانَ مُحِيطًا بِكُلِّ تَفْصِيلٍ وكُلِّ إجْمالٍ، ولَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ مِن شَيْءٍ، وكانَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ولِإحاطَتِهِ بِإثْباتِ كُلِّ رُتْبَةٍ مِن رُتَبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى لَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ في التَّوَقُّفِ عَنِ الإيمانِ بِهِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والأحْمَرِ والأسْوَدِ وجَمِيعِ خَلْقِ اللَّهِ، مَن يَعْرِفُهُ النّاسُ مِنهم ومَن لا يَعْرِفُونَهم مِمَّنْ أحاطَ بِهِمْ عِلْمُ العالَمِينَ بِإعْلامِ اللَّهِ، ومِن (p-٤٦٠)حُكْمِ إحاطَةِ كِتابِهِ كانَ مُمْكِنًا مِن عالِيَةِ كُلِّ آيَةٍ جاءَ بِها نَبِيٌّ قَبْلَهُ مِمَّنْ شاهَدَ ذَلِكَ مِنهُ حاضِرُوهُ، ونَقَلَهُ نَقْلَ التَّواتُرِ والِاسْتِفاضَةِ حَمَلَةُ العِلْمِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ؛ ثُمَّ رَتَّبَ قِياسًا عَلى إثْباتِ النُّبُوَّةِ فَقالَ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ذُو آيَةٍ هَذا القُرْآنُ المَشْهُودُ، وهَذا القُرْآنُ المَشْهُودُ مُعْجِزٌ كُلَّ ذِي إدْراكٍ، وبُشْرى مِن كُلِّ جِهَةٍ مِن جِهاتِ مَعانِيهِ وبَلاغَتِهِ، فَذُو آيَةٍ هَذا القُرْآنِ نَبِيٍّ، فَمُحَمَّدٌ ﷺ [نَبِيٌّ، ] أمّا أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ذُو آيَتِهِ فَبِالتَّجْرِبَةِ السَّمْعِيَّةِ المُتَيَقِّنَةِ المُسَمّاةِ بِالتَّواتُرِ، وأمّا أنَّ هَذا القُرْآنَ مُعْجِزٌ فِيما يَجِدُهُ كُلُّ ناظِرٍ في مَعْناهُ المُشْتَمِلِ عَلى تَمامِ الحِكْمَةِ فِيما هو كائِنٌ ونَبَأُ ما كانَ مِن قَبْلُ وخَبَرُ ما يَكُونُ بَعْدَ المُتَيَقِّنِ بِوُقُوعِ أوائِلِهِ وُقُوعَ جُمْلَتِهِ وصِحَّةَ خَبَرِهِ، وبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أنَّ ذا آيَتِهِ نَبِيٌّ، ثُمَّ بِما تَضَمَّنَهُ مِن شَهادَتِهِ لِذِي آيَتِهِ وتَصْرِيحِهِ بِذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَصَحَّ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ذُو آيَتِهِ، وأنَّهُ نَبِيٌّ ﷺ، والمُسْتَعْمَلُ في ذَلِكَ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ تَحَدّى بِهَذا القُرْآنِ [العَرَبَ] الفُصَحاءَ واللُّدَّ البُلَغاءَ، فَلَمّا لَجَؤُوا لِلْحَرْبِ وضَحَ أنَّهم فَرُّوا لِذَلِكَ المَكانِ ما وجَدُوهُ في أنْفُسِهِمْ مِنَ العَجْزِ، وإذا عَجَزَ أُولَئِكَ فَمَن بَعْدَهم أحَقُّ بِالعَجْزِ، فَلَمّا شَمِلَ العَجْزُ الكُلَّ مِنَ الخَلْقِ، (p-٤٦١)وجَبَ العِلْمُ بِأنَّ هَذا القُرْآنَ حَقٌّ، والمُتَحَدِّي بِهِ نَبِيٌّ جاءَ بِالصِّدْقِ، وحاصِلُهُ: لَوْ لَمْ تَعْجِزِ العَرَبُ لَمْ تُحارِبْ ثِقَلَ الحَرْبِ وخِفَّةَ المُعارَضَةِ لَوِ اسْتَطاعُوها، ولَمْ يُعارِضُوا وحارَبُوا فَقَدْ عَجَزُوا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ نَبِيٌّ ﷺ انْتَهى.
{"ayah":"أَوَلَمۡ یَكۡفِهِمۡ أَنَّاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَرَحۡمَةࣰ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











