الباحث القرآني

ولَمّا انْتَهى الكَلامُ إلى رُوحِ الدِّينِ وسِرِّ اليَقِينِ مِمّا لا يَعْلَمُهُ حَقَّ عِلْمِهِ إلّا العُلَماءُ بِالكُتُبِ السَّماوِيَّةِ والأخْبارِ الإلَهِيَّةِ، وكانَ العالِمُ يَقْدِرُ عَلى إيرادِ الشُّكُوكِ وتَرْوِيجِ الشُّبَهِ، فَرُبَّما أضَلَّ بِالشُّبْهَةِ الواحِدَةِ النِّيامَ مِنَ النّاسِ، بِما لَهُ عِنْدَهم مِنَ القَبُولِ، وبِما لِلنُّفُوسِ مِنَ النُّزُوعِ إلى الأباطِيلِ، وبِما لِلشَّيْطانِ في ذَلِكَ مِنَ التَّزْيِينِ، وكانَ الجِدالُ يُورِثُ الإحَنَ، ويَفْتَحُ أبْوابَ المِحَنِ، فَيَحْمِلُ عَلى الضَّلالِ، قالَ تَعالى عاطِفًا عَلى ﴿اتْلُ﴾ [العنكبوت: ٤٥] مُخاطِبًا لِمَن خَتَمَ الآيَةَ بِخِطابِهِمْ تَنْزِيهًا لِمَقامِهِ ﷺ عَنِ المُواجَهَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا يُصَوِّبُ هِمَّتَهُ الشَّرِيفَةَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ، لِأنَّهُ لَيْسَ (p-٤٥٠)فِي طَبْعِهِ المُجادَلَةُ، والمُماراةُ والمُغالَبَةُ: ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ﴾ أيْ: اليَهُودَ والنَّصارى ظَنًّا مِنكم أنَّ الجِدالَ يَنْفَعُ الدِّينَ، أوْ يَزِيدُ في اليَقِينِ، أوْ يَرُدُّ أحَدًا عَنْ ضَلالٍ مُبِينٍ ﴿إلا بِالَّتِي﴾ أيْ: بِالمُجادَلَةِ الَّتِي ﴿هِيَ أحْسَنُ﴾ أيْ: بِتِلاوَةِ الوَحْيِ الَّذِي أمَرْنا رَأْسَ العابِدِينَ بِإدامَةِ تِلاوَتِهِ فَقَطْ، وهَذا كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في سُبْحانَ: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] ولَمّا كانَ كُلُّ مَن جادَلَ مِنهم في القُرْآنِ ظالِمًا، كانَ مِنَ الواضِحِ أنَّ المُرادَ بِمَنِ اسْتَثْنى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾ أيْ: تَجاوَزُوا في الظُّلْمِ بِنَفْيِ صِحَّةِ القُرْآنِ وإنْكارِ إعْجازِهِ مَثَلًا وأنْ يَكُونَ عَلى أسالِيبِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، أوْ مُصَدِّقًا لِشَيْءٍ مِنها، أوْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿ما أنْـزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] ونَحْوُ هَذا مِنَ افْتِرائِهِمْ، فَإنَّ هَؤُلاءِ يُباحُ جِدالُهم ولَوْ أدّى إلى جِلادِهِمْ بِالسَّيْفِ، فَإنَّ الدِّينَ يَعْلُو ولا يُعْلى عَلَيْهِ. ولَمّا نَهى عَنْ مُوجِبِ الخِلافِ، أمَرَ بِالِاسْتِعْطافِ، فَقالَ: ﴿وقُولُوا آمَنّا﴾ أيْ: أوْقَعْنا الإيمانَ ﴿بِالَّذِي أُنْـزِلَ إلَيْنا﴾ أيْ: مِن هَذا الكِتابِ المُعْجِزِ ﴿وأُنْـزِلَ إلَيْكُمْ﴾ مِن كُتُبِكم، يَعْنِي في أنَّ أصْلَهُ حَقٌّ وإنْ كانَ قَدْ نُسِخَ مِنهُ ما نُسِخَ، وما حَدَّثُوكم بِهِ مِن شَيْءٍ لَيْسَ عِنْدَكم (p-٤٥١)ما يُصَدِّقُهُ ولا ما يُكَذِّبُهُ فَلا تُصَدِّقُوهم ولا تُكَذِّبُوهم، فَإنَّ هَذا أدْعى إلى الإنْصافِ، وأنْفى لِلْخِلافِ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ هَذا جامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، أتْبَعَهُ بِما يَجْمَعُهُما فَقالَ: ﴿وإلَهُنا وإلَهُكُمْ﴾ ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ قَطْعًا أنَّ المُرادَ بِهِ اللَّهُ، لِأنَّ المُسْلِمِينَ لا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وكانَ جَمِيعُ الفَرْقِ مُقِرِّينَ بِالإلَهِيَّةِ ولَوْ بِنَوْعِ إقْرارٍ لَمْ تَدْعُ [حاجَةٌ] إلى أنْ يَقُولَ ”إلَه“ كَما في بَقِيَّةِ الآياتِ فَقالَ: ﴿واحِدٌ﴾ إلى لا إلَهَ لَنا غَيْرُهُ وإنِ ادَّعى بَعْضُكم عُزَيْرًا والمَسِيحَ ﴿ونَحْنُ لَهُ﴾ خاصَّةً ﴿مُسْلِمُونَ﴾ أيْ: خاضِعُونَ مُنْقادُونَ أتَمَّ انْقِيادٍ فِيما يَأْمُرُنا بِهِ بَعْدَ الأُصُولِ مِنَ الفُرُوعِ سَواءٌ كانَتْ مُوافِقَةً لِفُرُوعِكم كالتَّوَجُّهِ بِالصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، أوْ ناسِخَةً كالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ، ولا نَتَّخِذُ الأحْبارُ والرُّهْبانُ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ لِنَأْخُذَ ما يَشْرَعُونَهُ لَنا مُخالِفًا لِكِتابِهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَنَكُونُ حِينَئِذٍ قَدْ خَضَعْنا لَهم وتَكَبَّرْنا عَلَيْهِ فَأوْقَعْنا الإسْلامُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ ظُلْمًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب