الباحث القرآني

ولَمّا قَرَّرَ ذِكْرَ الآخِرَةِ الَّتِي هي المَرْجِعُ وكَرَّرَهُ، وأثْبَتَ الجَزاءَ فِيها، وأنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، أتْبَعَهُ ما هو في بَيانِ ذَلِكَ كالعِلَّةِ، فَقالَ مُسْتَأْنِفًا مُقَرِّرًا مُؤَكِّدًا لِما تَقَرَّرَ في أذْهانِهِمْ مِن إنْكارِ الآخِرَةِ وما يَقْتَضِيهِ حالُ خُرُوجِهِ ﷺ مِن مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ مِنِ اسْتِبْعادِ رَدِّهِ إلَيْها: ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ﴾ أيْ: أوْجَبَ ﴿عَلَيْكَ القُرْآنَ﴾ أيْ: الجامِعَ لِما تَفَرَّقَ مِنَ المَحاسِنِ، المُفَصِّلَ لِما التَبَسَ مِن جَمِيعِ المَعانِي، أيْ: فَرَضَ عَلَيْكَ جَمِيعَ ما في هَذا الكِتابِ المُشْتَمِلِ عَلى الجَمْعِ والفَرْقِ بِما يَظْهَرُ حُسْنُ تَلَقِّيهِ مِن تِلاوَةٍ وإبْلاغٍ وتَحَدٍّ وعَمَلٍ وألْزَمَكَ فِيهِ وغَيْرَكَ هَذِهِ المَلازِمَ، وكَلَّفَكم تِلْكَ التَّكالِيفَ الَّتِي مِنها المُقارَعَةُ بِالسُّيُوفِ ﴿لَرادُّكَ﴾ (p-٣٧٥)أيْ: بَعْدَ المَوْتِ لِأجْلِ صُعُوبَةِ ما كَلَّفَكَ بِهِ وألْزَمَكَ مِن مَشَقَّتِهِ ﴿إلى مَعادٍ﴾ أيْ: مَرْجِعٍ عَظِيمٍ يا لَهُ مِن مَرْجِعٍ! يَجْزِي فِيهِ كُلَّ أحَدٍ بِما عَمِلَ، فَيَبْعَثُكَ رَبُّكَ فِيهِ ثَوابًا عَلى إحْسانِكَ في العَمَلِ مَقامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُكَ فِيهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ، بِما عانَيْتَ في أمْرِهِ مِن هَذِهِ المَشَقّاتِ الَّتِي لا تَحْمِلُها الجِبالُ، ولَوْلا الرَّدُّ إلى هَذا المَعادِ لَكانَتْ هَذِهِ التَّكالِيفُ - الَّتِي لا يَعْمَلُ أكْثَرُهم بِأكْثَرِها ولا يُجازِي عَلى المُخالَفَةِ فِيها - مِنَ العَبَثِ المَعْلُومِ أنَّ العاقِلَ مِنَ الآدَمِيِّينَ مُتَنَزِّهٌ عَنْهُ فَكَيْفَ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ! فاجْتَهِدْ فِيما أنْتَ فِيهِ لِعِزِّ ذَلِكَ اليَوْمِ فَإنَّ العاقِبَةَ لَكَ، والآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] [ ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [هود: ٤] ]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: إلى مَعادٍ أيِّ مَعادٍ، أيِّ مَكانٍ هو لِعَظَمَتِهِ أهْلٌ لِأنْ يَقْصِدَ العَوْدَ إلَيْهِ كُلُّ مَن خَرَجَ مِنهُ وهو مَكَّةُ المُشَرَّفَةُ: وطَنُكَ الدُّنْيَوِيُّ، كَما فَسَّرَها بِذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كَما رَواهُ عَنْهُ البُخارِيُّ، وعَوْدٌ هو لِجَلالَتِهِ أهْلٌ لِأنْ يَذْكُرَ لِدُخُولِكَ إلَيْها في جُنُودٍ يَعِزُّ بِها الإسْلامُ، ويُذِلُّ [بِها] الكُفْرَ وأهْلَهُ عَلى الدَّوامِ، والجَنَّةُ المُزَخْرَفَةُ: (p-٣٧٦)وطَنُكَ الأُخْرَوِيُّ، عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأعْلاها، وأعَزُّها وأوْلاها، فَلا تَظُنَّ أنَّهُ يَسْلُكُ بِكَ سَبِيلَ أبَوَيْكَ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ: إبْراهِيمَ في هِجْرَتِهِ مِن حَرّانَ بَلَدِ الكُفْرِ إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْها، وإسْماعِيلَ في العُلُوِّ بِهِ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ إلى أقْدَسَ مِنها فَلَمْ يَعُدْ إلَيْها، بَلْ يَسْلُكُ لَكَ سَبِيلَ أخِيكَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتابَ كَما أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ القُرْآنَ الفُرْقانَ- والَّذِي أشْرَكُوكَ بِهِ في قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى﴾ [القصص: ٤٨] في إعادَتِهِ إلى البَلَدِ الَّذِي ذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ - تَوْطِئَةً لِهَذِهِ الآيَةِ - أنَّهُ خَرَجَ مِنهُ خائِفًا يَتَرَقَّبُ - وهي مِصْرُ - إلى مَدْيَنَ في أطْرافِ بِلادِ العَرَبِ، عَلى وجْهٍ أهْلَكَ فِيهِ أعْداءَهُ، أمّا مَن كانَ مِن غَيْرِ قَوْمِهِ فَبِالإغْراقِ في الماءِ، وأمّا مَن كانَ مِن قَوْمِهِ فَبِالخَسْفِ في الأرْضِ، وأعَزَّ أوْلِياءَهُ مِن قَوْمِهِ وغَيْرِهِمْ، كَما خَرَجْتَ أنْتَ مِن بَلَدِكَ مَكَّةَ خائِفًا تَتَرَقَّبُ إلى المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ غَيْرَ أنَّ رُجُوعَكَ - لِكَوْنِكَ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ- وكَوْنِ خُرُوجِكَ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا عَنْ قَتْلِ أحَدٍ مِنهم لا يَكُونُ فِيهِ هَلاكُهم، بَلْ عِزُّهم وأمْنُهم وغِناهم وثَباتُهم، واخْتِيرَ لَفْظُ القُرْآنِ دُونَ الكِتابِ لِما فِيهِ مِنَ الجَمْعِ مِن لازِمِ النَّشْرِ - كَما مَضى في الحِجْرِ- فَناسَبَ السِّياقُ الَّذِي هو لِلنَّشْرِ والحَشْرِ والفَصْلِ مِن بَلَدِهِ ثُمَّ الوَصْلُ، فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّ هَذِهِ (p-٣٧٧)الآيَةَ نَزَلَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ في الجَحْفَةِ وهي في طَرِيقِ الهِجْرَةِ. ولَمّا فُهِمَ مِنَ الإبْلاغِ في هَذا التَّأْكِيدِ أنَّ ثَمَّ مَن يُبالِغُ في النَّفْيِ والإنْكارِ عَلى حَسَبِ هَذا التَّأْكِيدِ في الإثْباتِ فَيَقُولُ: إنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، ولا يَعُودُ إلى مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ ومِنّا عَيْنٌ تَطْرُفُ، قالَ مُهَدِّدًا عَلى طَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ عَلى لِسانِهِ ﷺ لِكَوْنِ الإنْكارِ تَكْذِيبًا لَهُ كَما كُذِّبَ مُوسى ﷺ حِينَ أجابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَما تَقَدَّمَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِهَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ لِما أخْبَرْتُكَ بِهِ: ﴿رَبِّي﴾ أيْ: المُحْسِنُ إلَيَّ ﴿أعْلَمُ﴾ أيْ: مِن كُلِّ أحَدٍ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ القِصَّةُ مُسَلَّمَةً لا نِزاعَ فِيها لِعاقِلٍ تُثْبِتُ الخالِقَ، وكانُوا يَقُولُونَ: مَنِ ادَّعى رُجُوعَهُ فَهو ضالٌّ، تَوَجَّهَ السُّؤالُ عَنِ المُهْتَدِي إلى الصَّوابِ والضّالِّ، بِما يَشْهَدُ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ عِنْدَ الإقْبالِ في أُولَئِكَ الضَّراغِمَةِ الأبْطالِ، والسّادَةِ الأقْيالِ، فَقالَ في أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهامِ لِإظْهارِ الإنْصافِ والإبْعادِ مِنَ الِاتِّهامِ: ﴿مَن جاءَ بِالهُدى﴾ أيْ: الَّذِي لا أبْيَنُ مِنهُ، أنا فِيما جِئْتُ بِهِ مِن رَبِّي بِهَذا الكَلامِ الَّذِي يَشْهَدُ اللَّهُ لِي بِإعْجازِهِ أنَّهُ مِن عِنْدِهِ أمْ أنْتُمْ فِيما تَقُولُونَ مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ؟ ﴿ومَن هو في ضَلالٍ﴾ أيْ: أنْتُمْ في كَلامِكُمُ الظّاهِرِ العَوارِ العَظِيمِ العارِ أمْ أنا ﴿مُبِينٍ﴾ أيْ: بَيِّنٌ (p-٣٧٨)فِي نَفْسِهِ مُظْهِرٌ لِكُلِّ أحَدٍ ما فِيهِ مِن خَلَلٍ وإنِ اجْتَهَدَ التّابِعُ لَهُ في سَتْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب