الباحث القرآني

ولَمّا عَجِبَ مِن حالِ قُرَيْشٍ في طَلَبِهِمْ مِنَ الآياتِ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثُمَّ كُفْرِهِمْ بِهِ وبِما هو أعْظَمُ مِنهُ، وخَتَمَ بِأنَّهُ أعْلَمُ بِأهْلِ الخَيْرِ وأهْلِ الشَّرِّ، إشارَةً إلى الإعْراضِ عَنِ الأسَفِ عَلى أحَدٍ، والإقْبالِ عَلى عُمُومِ الدُّعاءِ لِلْقَرِيبِ والبَعِيدِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، قالَ دَلِيلًا عَلى ذَلِكَ لِأنَّهم إنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهم، عاطِفًا عَلى قالُوا ﴿لَوْلا أُوتِيَ﴾ [القصص: ٤٨] ﴿وقالُوا إنْ نَتَّبِعِ﴾ أيْ: غايَةَ الِاتِّباعِ ﴿الهُدى﴾ أيْ: الإسْلامَ فَنُوَحِّدُ اللَّهَ مِن غَيْرِ إشْراكٍ ﴿مَعَكَ﴾ أيْ: وأنْتَ عَلى ما أنْتَ عَلَيْهِ مِن مُخالَفَةِ النّاسِ ﴿نُتَخَطَّفْ﴾ أيْ: مِن أيِّ خاطِفٍ أرادَنا، لِأنّا نَصِيرُ قَلِيلًا في كَثِيرٍ مِن غَيْرِ نَصِيرٍ ﴿مِن أرْضِنا﴾ كَما تُتَخَطَّفُ العَصافِيرُ لِمُخالَفَةِ كافَّةِ العَرَبِ لَنا، ولَيْسَ لَنا نِسْبَةٌ إلى كَثْرَتِهِمْ ولا قُوَّتِهِمْ فَيُسْرِعُوا إلَيْنا فَيَتَخَطَّفُونا، أيْ: يَتَقَصَّدُونَ خَطْفنا واحِدًا واحِدًا، فَإنَّهُ لا طاقَةَ لَنا عَلى إدامَةِ الِاجْتِماعِ وأنْ لا يَشِذَّ بَعْضُنا عَنْ بَعْضٍ؛ قالَ البَغَوِيُّ: (p-٣٢٠)والِاخْتِطافُ: الِانْتِزاعُ بِسُرْعَةٍ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ في الرَّدِّ عَلى هَذا الكَلامِ الواهِي: ألَمْ نَحْمِكَ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنهم وقَدْ جِئْتُمُوهم مِنَ الخِلافِ بِمِثْلِ ما يُخالِفُونَ هم بِهِ العَرَبَ أوْ أشَدَّ، ولا نِسْبَةَ لَكم إلى عَدَدِهِمْ ولا جَلَدِهِمْ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ﴾ أيْ: غايَةَ التَّمْكِينِ ﴿لَهُمْ﴾ في أوْطانِهِمْ ومَحَلِّ سُكْناهم بِما لَنا مِنَ القُدْرَةِ ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ أيْ: ذا أمْنٍ يَأْمَنُ فِيهِ كُلُّ خائِفٍ حَتّى الطَّيْرُ مِن كَواسِرِها والوَحْشُ مِن جَوارِحِها، حَتّى أنَّ سَيْلَ الحِلِّ لا يَدْخُلُ الحَرَمَ، بَلْ إذا وصَلَ إلَيْهِ عَدَلَ عَنْهُ؛ قالَ ابْنُ هِشامٍ في اسْتِيلاءِ كِنانَةَ وخُزاعَةَ عَلى البَيْتِ: وكانَتْ مَكَّةُ في الجاهِلِيَّةِ لا تُقِرُّ فِيها ظُلْمًا ولا بَغْيًا، لا يَبْغِي فِيها أحَدٌ إلّا أخْرَجَتْهُ - انْتَهى. وكانَ الرَّجُلُ يَلْقى قاتِلَ أبِيهِ وابْنِهِ فِيها فَلا يُهَيِّجُهُ ولا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ؛ ورَوى [الأزْرَقِيُّ] في تارِيخِ مَكَّةَ بِسَنَدِهِ عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ العُزّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كانَتْ في الكَعْبَةِ حِلَقٌ يُدْخِلُ الخائِفُ يَدَهُ فِيها فَلا يُرِيبُهُ أحَدٌ، فَجاءَ خائِفٌ لِيُدْخِلَ يَدَهُ فاجْتَذَبَهُ رَجُلٌ فَشُلَّتْ يَدُهُ، (p-٣٢١)فَلَقَدْ رَأيْتُهُ في الإسْلامِ [وإنَّهُ] لَأشَلُّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِصَّةُ العَرَبِ مِن غَيْرِ قُرَيْشٍ في أنَّهم كانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً إلّا إنْ أعارَتْهم قُرَيْشٌ ثِيابًا، فَجاءَتِ امْرَأةٌ فَطافَتْ عُرْيانَةً وكانَ لَها جَمالٌ فَرَآها رَجُلٌ فَأعْجَبَتْهُ فَدَخَلَ فَطافَ إلى جَنْبِها، فَأدْنى عَضُدَهُ مِن عَضُدِها، فالتَزَقَتْ عَضُدُهُ بِعَضُدِها، فَخَرَجا مِنَ المَسْجِدِ هارِبَيْنِ عَلى وُجُوهِهِما فَزِعَيْنِ لَما أصابَهُما مِنَ العُقُوبَةِ، فَلَقِيَهُما شَيْخٌ مِن قُرَيْشٍ فَأفْتاهُما أنْ يَعُودا إلى المَكانِ الَّذِي أصابا فِيهِ الذَّنْبَ، فَيَدْعُوانِ ويُخْلِصانِ أنْ لا يَعُودا، فَدَعَوا وأخْلَصا النِّيَّةَ، فافْتَرَقَتْ أعَضادُهُما فَذَهَبَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في ناحِيَةٍ. وبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: أخَذَ رَجُلٌ ذَوْدَ ابْنِ عَمٍّ لَهُ فَأصابَهُ في الحَرَمِ فَقالَ: ذَوْدِي: فَقالَ اللِّصُّ: كَذَبْتَ، قالَ: فاحْلِفْ، فَحَلَفَ عِنْدَ المَقامِ، فَقامَ رَبُّ الذَّوْدِ بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقامِ باسِطًا يَدَيْهِ يَدْعُو، فَما بَرِحَ مَقامَهُ يَدْعُو حَتّى ذَهَبَ عَقْلُ اللِّصِّ وجَعَلَ يَصِيحُ بِمَكَّةَ: ما لِي، ولِلزَّوْدِ، ما لِي، ولِفُلانٍ رَبِّ الزَّوْدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ المُطَّلِبِ فَجَمَعَ الزَّوْدَ فَدَفَعَهُ إلى المَظْلُومِ، فَخَرَجَ بِهِ وبَقِيَ الآخَرُ مُتَوَلِّهًا حَتّى وقَعَ مِن جَبَلٍ فَتَرَدّى فَأكَلَتْهُ السِّباعُ. وعَنْ أيُّوبَ بْنِ مُوسى أنَّ امْرَأةً في الجاهِلِيَّةِ كانَ مَعَها ابْنُ عَمٍّ لَها صَغِيرٌ فَقالَتْ لَهُ: يا بُنَيَّ: إنِّي (p-٣٢٢)أغِيبُ عَنْكَ وإنِّي أخافُ أنْ يَظْلِمَكَ أحَدٌ، فَإنْ جاءَكَ ظالِمٌ بَعْدِي فَإنَّ لِلَّهِ بِمَكَّةَ بَيْتًا لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ البُيُوتِ، وعَلَيْهِ ثِيابٌ ولا يُقارِبُهُ مُفْسِدٌ، فَإنْ ظَلَمَكَ ظالِمٌ يَوْمًا فَعُذْ بِهِ، فَإنَّ لَهُ رَبًّا سَيَمْنَعُكَ، فَجاءَهُ رَجُلٌ فَذَهَبَ بِهِ فاسْتَرَقَهُ، قالَ: وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُعْمِرُونَ أنْعامَهم فَأعْمَرَ سَيِّدُهُ ظَهْرَهُ، فَلَمّا رَأى الغُلامُ البَيْتَ عَرَفَ الصِّفَةَ فَنَزَلَ يَشْتَدُّ حَتّى تَعَلَّقَ بِالبَيْتِ، وجاءَهُ سَيِّدُهُ فَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَيَبِسَتْ يَدُهُ، فَمَدَّ الأُخْرى فَيَبِسَتْ، [فاسْتَفْتى] فَأفْتى أنْ يَنْحَرَ عَنْ كُلِّ واحِدَةٍ مِن يَدَيْهِ بَدَنَةً، فَفَعَلَ فَأُطْلِقَتْ يَداهُ، وتَرَكَ الغُلامَ وخَلّى سَبِيلَهُ. وعَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أبِي رُوادٍ أنَّ قَوْمًا انْتَهَوْا إلى ذِي طُوًى، فَإذا ظَبْيٌ قَدْ دَنا مِنهم، فَأخَذَ رَجُلٌ مِنهم بِقائِمَةٍ مِن قَوائِمِهِ فَقالَ لَهُ أصْحابُهُ: ويْحَكَ! أرْسِلْهُ، فَجَعَلَ يَضْحَكُ ويَأْبى أنْ يُرْسِلَهُ، فَبَعَرَ الظَّبْيُ وبالَ؛ ثُمَّ أرْسَلَهُ، فَنامُوا في القائِلَةِ فانْتَبَهُوا، فَإذا بِحَيَّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلى بَطْنِ الرَّجُلِ الَّذِي أخَذَ الظَّبْيَ، فَلَمْ تَنْزِلِ الحَيَّةُ عَنْهُ حَتّى كانَ مِنهُ مِنَ الحَدِيثِ مِثْلُ ما كانَ مِنَ الظَّبْيِ. وعَنْ مُجاهِدٍ قالَ: دَخَلَ قَوْمٌ مَكَّةَ تُجّارًا مِنَ الشّامِ في الجاهِلِيَّةِ فَنَزَلُوا ذا طُوًى فاخْتَبَزُوا مَلَّةً لَهم ولَمْ يَكُنْ مَعَهم إدامٌ، فَرَمى رَجُلٌ مِنهم ظَبْيَةً مِن ظِباءِ الحَرَمِ (p-٣٢٣)وهِيَ حَوْلَهم تَرْعى فَقامُوا إلَيْها فَسَلَخُوها وطَبَخُوا [لَحْمَها] لِيَأْتَدِمُوا بِهِ، فَبَيْنَما قِدْرُهم عَلى النّارِ تَغْلِي بِلَحْمَةٍ إذْ خَرَجَتْ مِن تَحْتِ القِدْرِ عُنُقٌ مِنَ النّارِ عَظِيمَةٌ فَأحْرَقَتِ القَوْمَ جَمِيعًا ولَمْ تَحْتَرِقْ ثِيابُهم ولا أمْتِعَتُهم ولا السَّمُراتُ الَّتِي كانُوا تَحْتَها. وفِي سِيرَةِ أبِي رَبِيعِ بْنِ سالِمٍ الكُلاعِيِّ أنَّ رَجُلًا مِن كِنانَةَ بْنِ هُذَيْلٍ ظَلَمَ ابْنَ عَمٍّ لَهُ فَخَوَّفَهُ بِالدُّعاءِ في الحَرَمِ، فَقالَ: هَذِهِ ناقَتِي فُلانَةُ ارْكَبْها فاذْهَبْ إلَيْهِ فاجْتَهِدْ في الدُّعاءِ، فَجاءَ الحَرَمَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أدْعُوكَ جاهِدًا مُضْطَرًّا عَلى ابْنِ عَمِّي فُلانٍ تَرْمِيهِ بِداءٍ لا دَواءَ لَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَ ابْنَ عَمِّهِ قَدْ رُمِيَ في بَطْنِهِ فَصارَ مِثْلَ الزَقِّ، فَما زالَ يَنْتَفِخُ حَتّى انْشَقَّ. وأنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَألَ رَجُلًا مِن بَنِي سَلِيمٍ عَنْ ذَهابِ بَصَرِهِ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! كُنّا بَنِي ضَبْعاءَ عَشْرَةً، وكانَ لَنا ابْنُ عَمٍّ فَكُنّا نَظْلِمُهُ فَكانَ يُذَكِّرُنا بِاللَّهِ، وبِالرَّحِمِ، فَلَمّا رَأى أنّا لا نَكُفُّ عَنْهُ انْتَهى إلى الحَرَمِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ يَقُولُ: ؎لا هُمَّ أدْعُوكَ دُعاءً جاهِدا اقْتُلْ بَنِي الضَّبْعاءِ إلّا واحِدا ؎(p-٣٢٤)ثُمَّ اضْرِبِ الرَّجُلَ ودَعْهُ قاعِدا ∗∗∗ أعْمى إذا قُيِّدَ يُعْيِي القائِدا قالَ: فَماتَ إخْوَتِي التِّسْعَةُ في تِسْعَةِ أشْهُرٍ في كُلِّ شَهْرٍ واحِدٌ، وبَقِيتُ أنا فَعَمِيتُ، ورَمانِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في رِجْلِي، فَلَيْسَ يُلائِمُنِي قائِدٌ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [سُبْحانَ اللَّهِ إنَّ هَذا لَهو العَجَبُ] . جَعَلَ اللَّهُ هَذا في الجاهِلِيَّةِ إذْ لا دِينَ حُرْمَةَ حَرَمِها وشَرَفَها، لِيَنْتَكِبَ النّاسُ عَنِ انْتِهاكِ ما حَرَّمَ مَخافَةَ تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ، فَلَمّا جاءَ الدِّينُ، صارَ المَوْعِدُ السّاعَةَ، ويَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِمَن يَشاءُ، فاتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ - انْتَهى. وكَأنَّهُ لِمِثْلِ ذَلِكَ عَبَّرَ بِالتَّمْكِينِ ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ كَما يَأْتِي تَأْكِيدُهُ في الَّتِي بَعْدَها، وقَدْ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ بُقْعَةً مِن بِقاعِ الأرْضِ لا مَزِيَّةَ لَهُ عَلى غَيْرِهِ بِنَوْعِ مَزِيَّةٍ، فالتَّقْدِيرُ: إنَّما فَعَلْنا ذَلِكَ بَعْدَ سُكْنى إسْماعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، تَوْطِئَةً لِما أرَدْنا مِنَ الحُكْمِ والأحْكامِ، أوَ لَيْسَ الَّذِي قَدَرَ عَلى ذَلِكَ وفَعَلَهُ لِمَن يَعْبُدُ غَيْرَهُ بِقادِرٍ عَلى حِمايَةِ مَن يَدْخُلُ في دِينِهِ، وقَدْ صارَ مِن حِزْبِهِ بِأنْواعِ الحِماياتِ، وإعْلائِهِ عَلى كُلِّ مَن يُناوِيهِ إلى أعْلى الدَّرَجاتِ، كَما فَعَلَ في حِمايَتِكم مِنهم ومَن غَيْرِهِمْ مِن سائِرِ المُخالِفِينَ أعْداءِ الدِّينِ. ولَمّا وصَفَهُ بِالأمْنِ، أتْبَعَهُ ما تَطْلُبُهُ النَّفْسُ بَعْدَهُ فَقالَ: ﴿يُجْبى﴾ أيْ: يُجْمَعُ ويُجْلَبُ مِمّا لا يَرْجُونَهُ ولا قُدْرَةَ لَهم عَلى اسْتِجْلابِهِ ﴿إلَيْهِ﴾ (p-٣٢٥)أيْ: خاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ ﴿ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مِنَ النَّباتِ الَّذِي بِأرْضِ العَرَبِ مِن ثَمَرِ البِلادِ الحارَّةِ كالبُسْرِ والرُّطَبِ والمَوْزِ والنَّبْقِ، والبارِدَةِ كالعِنَبِ والتُّفّاحِ والرُّمّانِ والخَوْخِ، وفي تَعْبِيرِهِ بِالمُضارِعِ وما بَعْدَهُ إشارَةٌ إلى الِاسْتِمْرارِ وأنَّهُ يَأْتِي إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِن كُلِّ ما في الأرْضِ مِنَ المالِ، ما لَمْ يَخْطُرْ لِأحَدٍ مِنهم في بالٍ، وقَدْ صَدَقَ اللَّهُ فِيما قالَ كَما تَراهُ ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. ولَمّا كانَ مَجْمُوعَ ما رَزَقَهم في هَذا الحَرَمِ مِنَ الأمْنِ بِأسْبابِهِ مِنَ الإسْراعِ بِإصابَةِ مَن آذى فِيهِ بِأنْواعِ العُقُوباتِ، وجِبايَةِ هَذِهِ الثَّمَراتِ، في غايَةِ الغَرابَةِ في تِلْكَ الأراضِي اليابِسَةِ الشَّدِيدَةِ الحَرِّ، المَحْفُوفَةِ مِنَ النّاسِ بِمَن لا يَدِينُ دِينًا، ولا يَخْشى عاقِبَةً، ولا لَهُ مُلْكٌ قاهِرٌ مِنَ النّاسِ يَرُدُّهُ، ولا نِظامٌ مِن سِياسَةِ العِبادِ يَمْنَعُهُ، عَبَّرَ عَنْهُ سُبْحانَهُ مَعَ مَظْهَرِ العَظَمَةِ بِلَدُنْ فَقالَ: ﴿رِزْقًا مِن لَدُنّا﴾ أيْ: مِن أبْطَنِ ما عِنْدَنا وأغْرَبِهِ، لا صُنْعَ لِأحَدٍ فِيهِ كَما تَعْلَمُ ذَلِكَ أنْتَ ومَنِ اتَّبَعَكَ ومَن فِيهِ قابِلِيَّةُ الهِدايَةِ مِنهم، وكُلُّ ذَلِكَ إنَّما هو لِأجْلِكَ [بِحُلُولِكَ] في [هَذا] الحَرَمِ مُضْمَرًا في الأصْلابِ، ومُظْهَرًا في تِلْكَ الشِّعابِ، تَوْطِئَةً لِنُبُوَّتِكَ، وتَمْهِيدًا لِرِسالَتِكَ، ومَتى غِبْتَ عَنْهم غابَ عَنْهم ذَلِكَ كُلُّهُ وسَيَنْظُرُونَ. (p-٣٢٦)ولَمّا كانَ هَذا الَّذِي أبْدَوْهُ عُذْرًا عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الهُدى يَظُنُّونَهُ مِن نَفائِسِ العِلْمِ، رَدَّهُ تَعالى نافِيًا عَمَّنْ لَمْ يُؤْمِن مِنهم جَمِيعَ [العِلْمِ] الَّذِي بِنَفْيِهِ يَنْتَفِي أنْ يَكُونَ هَذا الفَرْدُ عِلْمًا، فَقالَ في أُسْلُوبِ التَّأْكِيدِ لِذَلِكَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهُمْ﴾ أيْ: أهْلَ مَكَّةَ وغَيْرَهم مِمَّنْ لا هِدايَةَ لَهُ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: لَيْسَ لَهم قابِلِيَّةٌ لِلْعِلْمِ حَتّى يَعْلَمُوا أنّا نَحْنُ الفاعِلُونَ لِذَلِكَ بِتَرْتِيبِ أسْبابِهِ حَتّى تَمَكَّنَ ذَلِكَ وتَمَّ فَلا قُدْرَةَ لِأحَدٍ عَلى تَغْيِيرِهِ، وإنّا قادِرُونَ عَلى أنْ نَمْنَعَهم - إذا تابَعُوا أمْرَنا - مِمَّنْ يُرِيدُهم، بَلْ نُسَلِّطُهم عَلى كُلِّ مَن ناواهم، كَقُدْرَتِنا عَلى ما مَكَّنا لَهم وهو خارِجٌ عَنِ القِياسِ عَلى ما يَقْتَضِيهِ عُقُولُ النّاسِ، وإنّا قادِرُونَ عَلى سَلْبِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْهم لِإصْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ، ولا بُدَّ أنْ نُذِيقَهم ذَلِكَ أجْمَعَ بَعْدَ هِجْرَتِكَ لِيَعْلَمُوا أنَّهُ إنَّما نالَهم ذَلِكَ بِبَرَكَتِكَ، ولَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَشَكَرُوا، ولَكِنَّهم جَهِلُوا فَكَفَرُوا، ولِذَلِكَ أُنْذِرُوا﴿ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب