الباحث القرآني

ثُمَّ أقامَ الدَّلِيلَ عَلى إبانَتِهِ. وأنَّهُ يَقُصُّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هم يَخْتَلِفُونَ، بِما أوْرَدَ هُنا في قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (p-٢٣٤)مِنَ الدَّقائِقِ الَّتِي قَلَّ مَن يَعْلَمُها مِن حُذّاقِهِمْ، عَلى وجْهٍ مُعْلِمٍ بِما انْتَقَمَ بِهِ مِن فِرْعَوْنَ وآلِهِ، ومَن لَحِقَ بِهِمْ كَقارُونَ، وأنْعَمَ بِهِ عَلى مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأتْباعِهِ، ولِذَلِكَ بَسَطَ فِيها أُمُورَ القِصَّةِ ما لَمْ يَبْسُطْ في غَيْرِها فَقالَ: ﴿نَتْلُو﴾ أيْ: نَقُصُّ قَصًّا مُتَتابِعًا مُتَوالِيًا بَعْضُهُ في أثَرِ بَعْضٍ ﴿عَلَيْكَ﴾ بِواسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولَمّا كانَ المُرادُ إنَّما هو قَصُّ ما هو مِنَ الأخْبارِ العَظِيمَةِ بَيانًا لِلْآياتِ بِعِلْمِ الجَلِيّاتِ والخَفِيّاتِ، والمُحاسَبَةِ والمُجازاةِ، لا جَمِيعُ الأخْبارِ، قالَ: ﴿مِن نَبَإ مُوسى وفِرْعَوْنَ﴾ أيْ: بَعْضِ خَبَرِهِما العَظِيمِ مُتَلَبِّسًا هَذا النَّبَأُ وكائِنًا ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ: الَّذِي يُطابِقُهُ الواقِعُ، فَإنّا ما أخْبَرْنا فِيهِ بِمُسْتَقْبَلٍ إلّا طابَقَهُ الكائِنُ عِنْدَ وُقُوعِهِ، ونَبَّهَ عَلى أنَّ هَذا البَيانَ كَما سَبَقَ إنَّما يَنْفَعُ أُولِي الإذْعانِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: يُجَدِّدُونَ الإيمانَ في كُلِّ وقْتٍ عِنْدَ كُلِّ حادِثَةٍ لِثَباتِ إيمانِهِمْ، فَعُلِمَ أنَّ المَقْصُودَ مِنها هُنا الِاسْتِدْلالُ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الأُمِّيِّ بِالِاطِّلاعِ عَلى المُغَيَّباتِ، والتَّهْدِيدِ بِعِلْمِهِ المُحِيطِ، وقُدْرَتِهِ الشّامِلَةِ، وأنَّهُ ما شاءَ كانَ ولا مَدْفَعَ لِقَضائِهِ، ولا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَرِهِ، فَصَحَّ أنَّها دَلِيلٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى آخِرَ تِلْكَ: ﴿سَيُرِيكم آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها﴾ [النمل: ٩٣] [الآيَةُ، ] ولِذَلِكَ لَخَّصَتْ رُؤُوسُ أخْبارِ القِصَّةِ، فَذُكِرَتْ فِيها أُمَّهاتُ الأُمُورِ الخَفِيَّةِ ودَقائِقُ أعْمالِ مَن ذُكِرَ (p-٢٣٥)فِيها مِن مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُمِّهِ وفِرْعَوْنَ وغَيْرِهِمْ إلى ما تَراهُ مِنَ الحِكَمِ الَّتِي لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا عالِمٌ بِالتَّعَلُّمِ أوْ بِالوَحْيِ، ومَعْلُومٌ لِكُلِّ مُخاطَبٍ بِذَلِكَ انْتِفاءُ الأوَّلِ عَنِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ هَذا الذِّكْرُ ﷺ، فانْحَصَرَ الأمْرُ في الثّانِي، يُوَضِّحُ لَكَ هَذا المَرامَ مَعَ هَذِهِ الآيَةِ الأُولى الَّتِي ذَكَرْتُها قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ القِصَّةِ: ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤] ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ﴾ [القصص: ٤٦] وإتْباعُ القِصَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٥١] فالمُرادُ بِهَذا السِّياقِ مِنها كَما تَرى غَيْرَ ما تَقَدَّمَ مِن سِياقاتِها كَما مَضى، فَلا تَكْرِيرَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ واللَّهُ الهادِي. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها﴾ [النمل: ٩١] إلى آخِرِ السُّورَةِ مِنَ التَّخْوِيفِ والتَّرْهِيبِ والإنْذارِ والتَّهْدِيدِ لَمّا انْجَرَّ مَعَهُ الإشْعارُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سَيَمْلِكُ مَكَّةَ البَلْدَةَ ويَفْتَحُها اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، ويُذِلُّ عُتاةَ قُرَيْشٍ ومُتَمَرَّدِيهِمْ، ويُعِزُّ أتْباعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومَنِ اسْتَضْعَفَتْهُ قُرَيْشٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أتْبَعَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِما قَصَّهُ عَلى نَبِيِّهِ مِن تَطْهِيرِ ما أشارَ إلَيْهِ مِن قِصَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ وابْتِداءِ امْتِحانِهِمْ بِفِرْعَوْنَ، واسْتِيلائِهِ عَلَيْهِمْ، وفَتْكِهِ بِهِمْ إلى [أنْ] (p-٢٣٦)أعَزَّهُمُ اللَّهُ وأظْهَرَهم عَلى عَدُوِّهِمْ، وأوْرَثَهم أرْضَهم ودِيارَهم، ولِهَذا أشارَ تَعالى في كِلا القِصَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ [فِي الأُولى]: ﴿سَيُرِيكم آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها﴾ [النمل: ٩٣] وفي الثّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنهم ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٦] ثُمَّ قَصَّ ابْتِداءً أمْرَ فِرْعَوْنَ وحَذَرَهُ واسْتِعْصامَهُ بِقَتْلِ ذُكُورِ الأوْلادِ ثُمَّ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُ مِن قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا، فَفي حالِهِ عِبْرَةٌ لِمَن وُفِّقَ لِلِاعْتِبارِ، ودَلِيلٌ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ المُتَفَرِّدُ بِمُلْكِهِ، يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ، ويَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشاءُ، لا يَزَعُهُ وازِعٌ، ولا يَمْنَعُهُ عَمّا يَشاءُ مانِعٌ، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ [آل عمران: ٢٦] وقَدْ أفْصَحَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرْضِ﴾ [النور: ٥٥] - الآيَةُ بِما أشارَ إلَيْهِ مُجْمَلُ ما أوْضَحْنا اتِّصالَهُ مِن خاتِمَةِ النَّمْلِ وفاتِحَةِ القَصَصِ، ونَحْنُ نَزِيدُهُ بَيانًا بِذِكْرِ لُمَعٍ مِن تَفْسِيرِ ما قُصِدَ التِحامُهُ فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى مُعْلِمًا لِنَبِيِّهِ ﷺ وآمِرًا: ﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ﴾ [النمل: ٩١] إلى قَوْلِهِ: ﴿سَيُرِيكم آياتِهِ﴾ [النمل: ٩٣] لا خَفاءَ بِما تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ، وشَدِيدِ الوَعِيدِ، ثُمَّ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ﴾ [النمل: ٩١] إشارَةً إلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سَيَفْتَحُها ويَمْلِكُها، لِأنَّهُ بَلَدُ رَبِّهِ ومُلْكُهُ، وهو عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، وقَدِ اخْتَصَّهُ بِرِسالَتِهِ، ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فالعِبادُ والبِلادُ مِلْكُهُ، فَفي هَذا مِنَ الإشارَةِ مِثْلُ ما في قَوْلِهِ تَعالى: (p-٢٣٧)﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ﴾ [القصص: ٨٥] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ أتْلُوَ القُرْآنَ﴾ [النمل: ٩٢] أيْ: لِيَسْمَعُوهُ فَيَتَذَكَّرُوا ويَتَذَكَّرَ مَن سَبَقَتْ لَهُ السَّعادَةُ، ويَلْحَظَ سُنَّةَ اللَّهِ في العِبادِ والبِلادِ، ويَسْمَعَ ما جَرى لِمَن عانَدَ وعَنى وكَذَّبَ واسْتَكْبَرَ، فَكَيْفَ وقِصَّةُ [اللَّهِ] وأخْذُهُ ولَمْ يُغْنِ عَنْهُ حَذَرُهُ، وأوْرَثَ مُسْتَضْعَفُ عِبادِهِ أرْضَهُ ودِيارَهُ، ومَكَّنَ لَهم في الأرْضِ وأعَزَّ رُسُلَهُ وأتْباعَهم ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَبَإ مُوسى وفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: يُصَدِّقُونَ ويَعْتَبِرُونَ ويَسْتَدِلُّونَ ويَسْتَوْضِحُونَ، وقَوْلُهُ: ﴿سَيُرِيكم آياتِهِ﴾ [النمل: ٩٣] يُشِيرُ إلى ما حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وبَعْدَ ذَلِكَ إلى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وإذْعانِ مَن لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ انْقِيادَهُ، وإهْلاكِ مَن طالَ تَمَرُّدُهُ وعِنادُهُ، وانْقِيادِ العَرَبِ بِجُمْلَتِها بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ ودُخُولِ النّاسِ في الدِّينِ أفْواجًا، وعِزَّةِ أقْوامٍ وذِلَّةِ آخَرِينَ، بِحاكِمِ ﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] إلى أنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلى الصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ما وعَدَهم بِهِ نَبِيُّهم ﷺ، فَكانَ كَما وعَدَ، فَلَمّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ ما أُشِيرَ إلَيْهِ، أعْقَبَ بِما هو في قُوَّةِ أنْ لَوْ قِيلَ: لَيْسَ عُتُوُّكم بِأعْظَمَ مِن عُتُوِّ فِرْعَوْنَ وآلِهِ، ولا حالَ مُسْتَضْعَفِي المُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ مِمَّنْ قَصَدْتُمْ فِتْنَتَهُ في دِينِهِ بِدُونِ حالِ بَنِي إسْرائِيلَ حِينَ كانَ فِرْعَوْنُ يَمْتَحِنُهم بِذَبْحِ أبْنائِهِمْ، فَهَلّا تَأمَّلْتُمْ عاقِبَةَ الفَرِيقَيْنِ، وسَلَكْتُمْ أنْهَجَ الطَّرِيقَيْنِ؟، ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [غافر: ٨٢] (p-٢٣٨)- إلى قَوْلِهِ: ﴿فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: ٨٢] فَلَوْ تَأمَّلْتُمْ ذَلِكَ لَعَلِمْتُمْ أنَّ العاقِبَةَ لِلتَّقْوى، فَقالَ سُبْحانَهُ بَعْدَ افْتِتاحِ السُّورَةِ إنَّ فِرْعَوْن عَلا في الأرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِن خَبَرِهِ ما فِيهِ عِبْرَةٌ، وذَكَرَ سُبْحانَهُ آياتِهِ الباهِرَةَ في أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وحِفْظِهِ ورِعايَتِهِ وأخْذِ أمِّ عَدُوِّهُ إيّاهُ ﴿عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [القصص: ٩] فَلَمْ يَزَلْ يُذَبِّحُ الأبْناءَ خِيفَةً مِن مَوْلُودٍ يَهْتِكُ مُلْكَهُ حَتّى إذا كانَ ذَلِكَ المَوْلُودُ تَوَلّى بِنَفْسِهِ تَرْبِيَتَهُ وحِفْظَهُ وخِدْمَتَهُ لِيَعْلَمَ لِمَنِ التَّدْبِيرُ والإمْضاءُ، وكَيْفَ نُفُوذُ سابِقِ الحُكْمِ والقَضاءِ، فَهَلّا سَألَتْ قُرَيْشٌ وسَمِعَتْ وفَكَّرَتْ واعْتَبَرَتْ ﴿أوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما في الصُّحُفِ الأُولى﴾ [طه: ١٣٣] ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِخُرُوجِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن أرْضِهِ فَخَرَجَ مِنها خائِفًا يَتَرَقَّبُ، وما نالَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ الخُرُوجِ مِن عَظِيمِ السَّعادَةِ، وفي ذَلِكَ مَنبَهَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى خُرُوجِهِ مِن مَكَّةَ وتَعْزِيَةٌ لَهُ وإعْلامٌ بِأنَّهُ تَعالى سَيُعِيدُهُ إلى بَلَدِهِ ويَفْتَحُهُ عَلَيْهِ، وبِهَذا المُسْتَشْعَرِ مِن هُنا صَرَّحَ آخِرَ السُّورَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ﴾ [القصص: ٨٥] وهَذا كافٍ فِيما قَصَدَ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب