الباحث القرآني

ولَمّا كانَ هَذا أمْرًا مُعَجِّبًا لِما فِيهِ مِن جَزالَةِ الألْفاظِ وجَلالَةِ المَعانِي، تَسَبَّبَ عَنْهُ قَوْلُهُ: ﴿فَتَبَسَّمَ﴾ ولَمّا دَلَّ ذَلِكَ عَلى الضَّحِكِ، وكانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِلْغَضَبِ، أكَّدَهُ وحَقَّقَ مَعْناهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ضاحِكًا مِن قَوْلِها﴾ أيْ: لِما أُوتِيَتْهُ مِنَ الفَصاحَةِ والبَيانِ، وسُرُورًا بِما وصَفَتْهُ بِهِ مِنَ العَدْلِ في أنَّهُ وجُنُودُهُ لا يُؤْذُونَ أحَدًا وهم يَعْلَمُونَ ﴿وقالَ﴾ مُتَذَكِّرًا ما أوْلاهُ رَبُّهُ سُبْحانَهُ بِحُسْنِ تَرْبِيَتِهِ مِن فَهْمِ كَلامِها إلى ما أنْعَمَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ ذَلِكَ: ﴿رَبِّ﴾ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ ﴿أوْزِعْنِي أنْ﴾ أيْ: اجْعَلْنِي مُطِيقًا لِأنَّ ﴿أشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ أيْ: وازِعًا لَهُ كافًّا مُرْتَبِطًا حَتّى لا يَغْلِبَنِي، ولا يَتَفَلَّتَ مِنِّي، ولا يَشِذَّ عَنِّي وقْتًا ما. ولَمّا أفْهَمَ ذَلِكَ تَعَلُّقَ النِّعْمَةِ [بِهِ] حَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ ورُبَّما أفْهَمَ قَوْلُهُ: ﴿وعَلى والِدَيَّ﴾ أنَّ أُمَّهُ كانَتْ [أيْضًا] تَعْرِفُ مَنطِقَ الطَّيْرِ، وتَحْقِيقُ مَعْنى هَذِهِ العِبارَةِ أنَّ مادَّةَ ”وزَعَ“ -بِأيِّ: تَرْتِيبٍ كانَ- يَدُورُ عَلى المِعْوَزِ -لِخِرْقَةٍ بالِيَةٍ يُلَفُّ بِها الصَّبِيُّ- ويَلْزَمُها التَّمْيِيزُ، فَإنَّ المَلْفُوفَ بِها يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، ومِنهُ الأوْزاعُ (p-١٤٥)وهُمُ الجَماعاتُ المُتَفَرِّقَةِ، ويَلْزَمُها أيْضًا الإطاقَةُ فَإنَّ أكْثَرَ النّاسِ يَجِدُها، ومِنهُ العِزُونَ -لِعِصَبٍ مِنَ النّاسِ، فَإنَّهم يُطِيقُونَ ما يُرِيدُونَ ويُطِيقُهم مَن يُرِيدُهم، ومِنهُ الوَزْعُ وهو كَفُّ ما يُرادُ كَفُّهُ، والوَلُوعُ بِما يُزادُ، ومِنهُ الإيعازُ- لِلتَّقَدُّمِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، والزَّوْعُ لِلْجَذْبِ، ويُلْزِمُها أيْضًا الحاجَةُ فَإنَّهُ لا يَرْضى بِها دُونَ الجَدِيدِ إلّا مُحْتاجٌ، فَمَعْنى الآيَةِ: اجْعَلْنِي وازِعًا -أيْ: مُطِيقًا- أنْ أشْكُرَها كَما يُطِيقُ الوازِعُ كَفَّ ما يُرِيدُ كَفَّهُ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَدارُ المادَّةِ الحاجَةَ لِأنَّ الأوْزاعَ -وهُمُ الجَماعاتُ- يَحْتاجُونَ إلى الِاجْتِماعِ جُمْلَةً، والكافُّ مُحْتاجٌ إلى امْتِثالِ ما يَكُفُّهُ لِأمْرِهِ، والجاذِبُ مُحْتاجٌ إلى الوَزْعِ أيْ: الجَذْبِ، والمُولَعُ بِالشَّيْءِ فَقِيرٌ إلَيْهِ، والمُوعِزُ مُحْتاجٌ إلى قَبُولِ وصِيَّتِهِ، فالمَعْنى: اجْعَلْنِي وازِعًا أيْ: فَقِيرًا إلى الشُّكْرِ، أيْ: مُلازِمًا لَهُ مُولَعًا بِهِ، لِأنَّ كُلَّ فَقِيرٍ إلى شَيْءٍ مُجْتَهِدٌ في تَحْصِيلِهِ، ويَلْزَمُ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ احْتِقارُ العَمَلِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْأمْنِ مِنَ الإعْجابِ، [وفِي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى بِرِّ الوالِدَيْنِ في سُؤالِ القِيامِ عَنْهم بِما لَمْ يَبْلُغاهُ مِنَ الشُّكْرِ] واللَّهُ المُوَفِّقُ. والشُّكْرُ في اللُّغَةِ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ المُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا كالثَّناءِ عَلى المُنْعِمِ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ الشّاكِرَ قَدْ عَرَفَ نِعْمَتَهُ واعْتَرَفَ لَهُ بِها وحَسُنَ مَوْقِعُها عِنْدَهُ، وخَضَعَ قَلْبُهُ لَهُ لِذَلِكَ، وحاصِلُهُ أنَّهُ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ لِأنَّها السَّبِيلُ إلى مَعْرِفَةِ المُنْعِمِ فَإنَّهُ إذا عَرَفَها تَسَبَّبَ في (p-١٤٦)التَّعَرُّفِ إلَيْهِ، فَسَلَكَ طَرِيقَ التَّعَرُّفِ وجَدَّ في الطَّلَبِ، ومَن جَدَّ وجَدَ، ويُرْوى عَنْ داوُدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: يا رَبِّ كَيْفَ أشْكُرُكَ والشُّكْرُ نِعْمَةٌ أُخْرى مِنكَ أحْتاجُ عَلَيْها إلى شُكْرٍ آخَرَ؟ فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: يا داوُدُ ! إذا عَلِمْتَ أنَّ ما بِكَ مِن نِعْمَةٍ فَمِنِّي فَقَدْ شَكَرْتَنِي. والشُّكْرُ ثَلاثَةُ أشْياءَ: الأوَّلُ: مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ بِمَعْنى إحْضارِها في الخاطِرِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عِنْدَكَ أنَّها نِعْمَةٌ، فَرُبَّ جاهِلٍ يُحْسِنُ إلَيْهِ ويُنْعِمُ عَلَيْهِ وهو لا يَدْرِي، فَلا جَرَمَ أنَّهُ لا يَصِحُّ مِنهُ الشُّكْرُ. والثّانِي: قَبُولُ النِّعْمَةِ بِتَلَقِّيها مِنَ المُنْعِمِ بِإظْهارِ الفَقْرِ والفاقَةِ، فَإنَّ ذَلِكَ شاهِدٌ بِقَبُولِها حَقِيقَةً، والثّالِثُ: الثَّناءُ بِها بِأنْ تَصِفَ المُنْعِمَ بِالجُودِ والكَرَمِ ونَحْوِهِ مِمّا يَدُلُّ عَلى حُسْنِ تَلَقِّيكَ لَها واعْتِرافِكَ بِنُزُولِ مَقامِكَ في الرُّتْبَةِ عَنْ مَقامِهِ، فَإنَّ اليَدَ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: الأُولى الشُّكْرُ عَلى المَحابِّ أيْ: الأشْياءِ المَحْبُوبَةِ، وهَذا شُكْرٌ تُشارِكُ فِيهِ المُثْبِتُونَ المُسْلِمُونَ واليَهُودُ والنَّصارى والمَجُوسُ، فَإنَّ الكُلَّ يَعْتَقِدُونَ أنَّ الإحْسانَ الواصِلَ مِنَ الرَّحْمَنِ واجِبٌ مَعْرِفَتُهُ عَلى الإنْسانِ، ومِن سَعَةِ بِرِّ البارِئِ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ عَدَّهُ شُكْرًا مَعَ كَوْنِهِ واجِبًا عَلى الشّاكِرِ، ووَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيادَةَ، وأوْجَبَ فِيهِ المَثُوبَةَ إحْسانًا ولُطْفًا. الثّانِيَةُ: الشُّكْرُ في المَكارِهِ، وهو إمّا مِن رَجُلٍ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ الحالاتِ، بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ المَكْرُوهُ والمَحْبُوبُ، فَإذا نَزَلَ بِهِ المَكْرُوهُ شَكَرَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِمَعْنى أنَّهُ أظْهَرَ الرِّضا بِنُزُولِهِ بِهِ، وهَذا مَقامُ الرِّضا، وإمّا مِن رَجُلٍ (p-١٤٧)يُمَيِّزُ بَيْنَ الأحْوالِ فَهو لا يُحِبُّ المَكْرُوهَ ولا يَرْضى بِنُزُولِهِ، فَإنْ نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ فَشُكْرُهُ عَلَيْهِ إنَّما هو كَظْمُ الغَيْظِ وسِتْرُ الشَّكْوى وإنْ كانَ باطِنُهُ شاكِيًا، والكَظْمُ إنَّما هو لِرِعايَةِ الأدَبِ بِالسُّلُوكِ في مَسْلَكِ العِلْمِ، فَإنَّهُ يَأْمُرُ العَبْدَ بِالشُّكْرِ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، والثّالِثَةُ: أنْ لا يَشْهَدَ العَبْدُ إلّا المُنْعِمَ بِاشْتِغالِهِ بِالِاسْتِغْراقِ في مُشاهَدَتِهِ عَنْ مُشاهَدَةِ النِّعْمَةِ، وهَذا الشُّهُودُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: أحَدُها: أنْ يَسْتَغْرِقَ فِيها عُبُودِيَّةً، فَيَكُونُ مُشاهِدًا لَهُ مُشاهَدَةَ العَبْدِ لِلسَّيِّدِ بِأدَبِ العَبِيدِ إذا حَضَرُوا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِمْ، فَإنَّهم يَنْسَوْنَ ما هم فِيهِ مِنَ الجاهِ والقُرْبِ الَّذِي ما حَصَلَ لِغَيْرِهِمْ، بِاسْتِغْراقِهِمْ في الأدَبِ، ومُلاحَظَتِهِمْ لِسَيِّدِهِمْ خَوْفًا مِن أنْ يَسِيرَ إلَيْهِمْ في أمْرٍ فَيَجِدُهم غافِلِينَ، وهَذا أمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَن صَحِبَ المُلُوكَ، فَصاحِبُ هَذا الحالِ إذا أنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ في هَذِهِ الحالَةِ، مَعَ قِيامِهِ في حَقِيقَةِ العُبُودَةِ، اسْتَعْظَمَ الإحْسانَ، لِأنَّ العُبُودَةَ تُوجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَصْغِرَ نَفْسَهُ. ثانِيها: أنْ يَشْهَدَ سَيِّدُهُ شُهُودَ مَحَبَّةٍ غالِبَةٍ، فَهو يُسَبِّبُ هَذا الِاسْتِغْراقَ فِيهِ، يَسْتَحْلِي مِنهُ الشِّدَّةَ، وقَدْ قالَ بَعْضُ عُشّاقِ حُسْنِ الصُّورَةِ لا صُورَةِ الحُسْنِ فَأحْسَنَ: ؎مَن لَمْ يَذُقْ ظُلْمَ الحَبِيبِ كَظُلْمِهِ حُلْوًا فَقَدْ جَهِلَ المَحَبَّةَ وادَّعى ثالِثُها: أنْ يَشْهَدَ شُهُودَ تَفْرِيدٍ يَرْفَعُ الثَّنَوِيَّةَ ويُفْنِي الرَّسْمَ ويُذْهِبُ الغَيْرِيَّةَ، (p-١٤٨)فَإذا ورَدَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ أوِ الشَّدَّةُ كانَ مُسْتَغْرِقًا في الفَناءِ فَلَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ مِنهُما. ولَمّا عُلِمَ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ الشّاكِرَ هو المُسْتَغْرِقُ في الثَّناءِ عَلى المُنْعِمِ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ العَمَلِ مِن فِناءٍ أوْ غَيْرِهِ بِحَسَبِ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وكانَ ذَلِكَ عَمِلَ مِمّا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ زَيْنٌ لِذَلِكَ العَبْدِ كَوْنَهُ حَسَنًا وهو لَيْسَ كَذَلِكَ، قالَ ﷺ مُشِيرًا إلى هَذا المَعْنى: ﴿وأنْ أعْمَلَ صالِحًا﴾ أيْ: في نَفْسِ الأمْرِ. ولَمّا كانَ العَمَلُ الصّالِحُ قَدْ لا يُرْضِي المُنْعِمَ لِنَقْصٍ في العَمَلِ كَما قِيلَ في مَعْنى ذَلِكَ: ؎إذا كانَ المُحِبُّ قَلِيلَ حَظٍّ ∗∗∗ فَما حَسَناتُهُ إلّا ذُنُوبٌ قالَ: ﴿تَرْضاهُ﴾ ولَمّا كانَ العَمَلُ الصّالِحُ المَرَضِيُّ قَدْ لا يُعْلى إلى دَرَجَةِ المَرْضِيِّ عَنْهم، لِكَوْنِ العامِلِ مَنظُورًا إلَيْهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ، لِكَوْنِهِ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الكِتابُ بِالشَّقاءِ، لِأنَّ المَلِكَ المُنْعِمَ تامُّ المُلْكِ عَظِيمُ المِلْكِ فَهو بِحَيْثُ لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ، قالَ مُعْرِضًا عَنْ عَمَلِهِ مُعْتَرِفًا بِعَجْزِهِ، مُعْلِمًا بِأنَّ المُنْعِمَ غَنِيٌّ عَنِ العَمَلِ وعَنْ غَيْرِهِ، لا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةٌ ولا يَنْفَعُهُ طاعَةٌ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ﴾ أيْ: لا بِعَمَلِي ﴿فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ أيْ: [لِما] أرَدْتَهم لَهُ مِن تَمامِ النِّعْمَةِ بِالقُرْبِ والنَّظَرِ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ العَفْوِ (p-١٤٩)والرَّحْمَةِ والرِّضا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب