الباحث القرآني
ولَمّا فَرَّقَ سُبْحانَهُ في تِلْكَ بَيْنَ الدِّينِ الحَقِّ والمَذْهَبِ الباطِلِ، وبَيَّنَ ذَلِكَ غايَةَ البَيانِ، وفَصَلَ الرَّحْمَنَ مِن عِبادِ الشَّيْطانِ، وأخْبَرَ أنَّهُ عَمَّ بِرِسالَتِهِ ﷺ جَمِيعَ الخَلائِقِ، وخَتَمَ بِشَدِيدِ الإنْذارِ (p-٣)لِأهْلِ الإدْبارِ، بَعْدَ أنْ قالَ: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ [الفرقان: ٧٧] وكانَ حِينَ نُزُولِها لَمْ يُسْلِمْ مِنهم إلّا القَلِيلُ، وكانَ ذَلِكَ رُبَّما أوْهَمَ قُرْبَ إهْلاكِهِمْ وإنْزالِ البَطْشِ بِهِمْ، كَما كانَ في آخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وأشارَتِ الأحْرُفُ المُقَطَّعَةُ إلى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأوْجَبَ الأسَفَ عَلى فَواتِ ما كانَ يُرْجى مِن رَحْمَتِهِمْ بِالإيمانِ، والحِفْظِ عَنْ نَوازِلِ الحَدَثانِ، وكانَ ذَلِكَ أيْضًا رُبَّما أوْجَبَ أنْ يَظُنَّ ظانٌّ، أنَّ عَدَمَ إسْلامِهِمْ لِنَقْصٍ في البَيانِ، أزالَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ أوَّلَ هَذِهِ فَقالَ: ﴿تِلْكَ﴾ أيْ: الآياتُ العالِيَةُ المَرامِ، الحائِزَةُ أعْلى مَراتِبِ التَّمامِ، المُؤَلَّفَةُ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ الَّتِي تَتَناطَقُونَ بِها وكَلِماتِ لِسانِكم،
﴿آياتُ الكِتابِ﴾ أيْ: الجامِعِ لِكُلِّ فُرْقانٍ،
﴿المُبِينِ﴾ أيْ: الواضِحُ في نَفْسِهِ أنَّهُ مُعْجِزٌ، وأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وأنَّ فِيهِ كُلَّ مَعْنًى جَلِيلٍ، الفارِقُ لِكُلِّ مُجْتَمِعٍ مُلْتَبِسٍ بِغايَةِ البَيانِ، فَصَحَّ أنَّهُ كَما ذَكَرَ في الَّتِي قَبْلَها، فَإنَّ الإبانَةَ هي الفَصْلُ والفَرْقُ، فَصارَ الإخْبارُ بِأنَّهُ فُرْقانٌ مُكْتَنِفًا الإنْذارَ أوَّلَ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَها وآخِرَها – واللَّهُ المُوَفِّقُ.
وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا عَرَّفَتْ سُورَةُ الفُرْقانِ بِشَنِيعِ مُرْتَكَبِ الكَفَرَةِ المُعانِدِينَ، وخُتِمَتْ بِما ذُكِرَ مِنَ الوَعِيدِ، كانَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِإشْفاقِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتَأسُّفِهِ عَلى فَواتِ إيمانِهِمْ، لِما جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ والإشْفاقِ، فافْتُتِحَتِ السُّورَةُ الأُخْرى بِتَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ (p-٤)والسَّلامُ، وأنَّهُ سُبْحانَهُ لَوْ شاءَ لَأنْزَلَ عَلَيْهِمْ آيَةً تَبْهَرُهم وتُذِلُّ جَبابِرَتَهم فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الشعراء: ٣] - الآيَتَيْنِ، وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا المَعْنى عِنْدَ إرادَةِ تَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ [الأنعام: ٣٥] ﴿ولَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ [السجدة: ١٣] ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعًا﴾ [يونس: ٩٩] ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١٣٧] ثُمَّ أعْقَبَ سُبْحانَهُ بِالتَّنْبِيهِ والتَّذْكِيرِ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الأرْضِ كَمْ أنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧] ﴿وإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى﴾ [الشعراء: ١٠] وقَلَّما تَجِدُ في الكِتابِ العَزِيزِ وُرُودَ تَسْلِيَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا مُعَقَّبَةً بِقَصَصِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وما كابَدَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وفِرْعَوْنَ، وفي كُلِّ قِصَّةٍ مِنها إحْرازُ ما لَمْ تُحْرِزْهُ الأُخْرى مِنَ الفَوائِدِ والمَعانِي والأخْبارِ حَتّى لا تَجِدَ قِصَّةٌ تَتَكَرَّرُ وإنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِن لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ، فَما مِن قِصَّةٍ مِنَ القَصَصِ المُتَكَرِّرَةِ في الظّاهِرِ إلّا ولَوْ سَقَطَتْ أوْ قُدِّرَ إزالَتُها لَنَقَصَ مِنَ الفائِدَةِ ما لا يَحْصُلُ مِن غَيْرِها، وسَيُوَضَّحُ هَذا في التَّفْسِيرِ بِحَوْلِ اللَّهِ؛ ثُمَّ أتْبَعَ جَلَّ وتَعالى قِصَّةَ مُوسى بِقَصَصِ غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أُمَمِهِمْ عَلى الطَّرِيقَةِ المَذْكُورَةِ، وتَأْنِيسًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَتّى لا يُهْلِكَ نَفْسَهُ أسَفًا عَلى فَوْتِ إيمانِ قَوْمِهِ؛ ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الكِتابِ (p-٥)وعَظِيمِ النِّعْمَةِ بِهِ فَقالَ: ﴿وإنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢] ﴿نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] ﴿عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ﴾ [الشعراء: ١٩٤] فَيا لَها كَرامَةً تَقْصُرُ الألْسُنُ عَنْ شُكْرِها، وتَعْجِزُ العُقُولُ عَنْ تَقْدِيرِها، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِعَلِيِّ أمْرِ هَذا الكِتابِ وشائِعِ ذِكْرِهِ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ فَقالَ: ﴿وإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٦] وأخْبَرَ أنَّ عِلْمَ بَنِي إسْرائِيلَ مِن أعْظَمِ آيَةٍ وأوْضَحِ بُرْهانٍ وبَيِّنَةٍ، وأنَّ تَأمُّلَ ذَلِكَ كافٍ، واعْتِبارَهُ شافٍ، فَقالَ: ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشعراء: ١٩٧] كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأشْباهِهِ، ثُمَّ وبَّخَ تَعالى مُتَوَقَّفِي العَرَبِ فَقالَ: ﴿ولَوْ نَـزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٨] - الآيَةُ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَتَّعِظُ بِهِ المُؤْمِنُ الخائِفُ مِن أنَّ الكِتابَ -مَعَ أنَّهُ هُدًى ونُورٌ- قَدْ يَكُونُ مِحْنَةً في حَقِّ طائِفَةٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] فَقالَ تَعالى في هَذا المَعْنى: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٠] ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [الشعراء: ٢٠١] الآياتُ، ثُمَّ عادَ الكَلامُ إلى تَنْزِيهِ الكِتابِ وإجْلالِهِ عَنْ أنْ تَتَسَوَّرَ الشَّياطِينُ عَلى شَيْءٍ مِنهُ أوْ تَصِلَ إلَيْهِ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وما تَنَـزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] ﴿وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] أيْ: لَيْسُوا أهْلًا لَهُ ولا يَقْدِرُونَ عَلى اسْتِراقِ سَمْعِهِ، بَلْ هم مَعْزُولُونَ عَنِ السَّمْعِ، مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ، ثُمَّ وصّى تَعالى (p-٦)نَبِيَّهُ ﷺ والمُرادُ: المُؤْمِنُونَ- فَقالَ: ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٣] ثُمَّ أمَرَهُ بِالإنْذارِ ووَصّاهُ بِالصَّبْرِ فَقالَ: ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤] ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٥] ثُمَّ أعْلَمَ تَعالى بِمَوْقِعِ ما تَوَهَّمُوهُ، وأهْلِيَّةِ ما تَخَيَّلُوهُ، فَقالَ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَـزَّلُ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢٢١] ﴿تَنَـزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢٢] ثُمَّ وصَفَهم، وكُلُّ هَذا تَنْزِيهٌ لِنَبِيِّهِ ﷺ عَمّا تَقَوَّلُوهُ، ثُمَّ هَدَّدَهم وتَوَعَّدَهم فَقالَ: ﴿وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] -انْتَهى.
{"ayah":"تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











