الباحث القرآني

ولَمّا أخْبَرَهُ تَعالى بِحَقِيقَةِ حالِهِمْ، في ابْتِدائِهِمْ ومَآلِهِمْ، وكانَ ذَلِكَ مِمّا يُحْزِنُهُ ﷺ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلى رُجُوعِهِمْ، ولُزُومِ ما يَنْفَعُهم واجْتِنابِ ما يَضُرُّهُمْ، سَلّاهُ بِقَوْلِهِ مُعَجِّبًا مِن حالِهِمْ: ﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ﴾ أيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أنْ أخَذَ ﴿إلَهَهُ هَواهُ﴾ أيْ أنَّهم حَقَّرُوا الإلَهَ بِإنْزالِهِ إلى رُتْبَةِ الهَوى فَهم لا يَعْبُدُونَ إلّا الهَوى، وهو مَيْلُ الشَّهْوَةِ ورَمِيُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ، لا شُبْهَةَ لَهم أصْلًا في عِبادَةِ الأصْنامِ يَرْجِعُونَ عَنْها إذا جَلَّتْ، فَهم لا يَنْفَكُّونَ عَنْ عِبادَتِها ما دامَ (p-٣٩٣)هَواهم مَوْجُودًا، فَلا يَقْدِرُ عَلى كَفِّهِمْ عَنْ ذَلِكَ إلّا القادِرُ عَلى صَرْفِ تِلْكَ الأهْواءِ، وهو اللَّهُ وحْدَهُ وهَذا كَما تَقُولُ: فُلانٌ اتَّخَذَ سَمِيرَهُ كِتابَهُ، أيْ أنَّهُ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلى مُسامَرَةِ الكِتابِ فَلا يُسامِرُ غَيْرَ الكِتابِ، وقَدْ يُشارِكُهُ في مُسامَرَةِ الكِتابِ غَيْرُهُ، ولَوْ قُلْتَ: اتَّخَذَ كِتابَهُ سَمِيرَهُ، لانْعَكَسَ الحالُ فَكانَ المَعْنى أنَّهُ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلى مُطالَعَةِ السَّمِيرِ ولَمْ يَنْظُرْ في كِتابٍ في وقْتِ السَّمَرِ وقَدْ يُشارِكُهُ غَيْرُهُ في السَّمِيرِ، أوْ قَصَرَ السَّمِيرَ عَلى الكِتابِ والكِتابَ عَلى السَّمِيرِ كَما قَصَرَ الطِّينَ عَلى الخَزَفِيَّةِ في قَوْلِكَ: اتَّخَذْتُ الطِّينَ خَزَفًا، فالمَعْنى أنَّ هَذا المَذْمُومَ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلى تَألُّهِ الهَوى فَلا صَلاحَ لَهُ ولا رَشادَ وقَدْ يَتَألَّهُ الهَوى غَيْرَهُ، ولَوْ قِيلَ: مَنِ اتَّخَذَ هَواهُ إلَهَهُ، لَكانَ المَعْنى أنَّهُ قَصَرَ هَواهُ عَلى الإلَهِ فَلا غَيَّ لَهُ، لِأنَّ هَواهُ تابِعٌ لِأمْرِ الإلَهِ، وقَدْ يُشارِكُهُ في تَألُّهِ الإلَهِ غَيْرُهُ؛ قالَ أبُو حَيّانَ: والمَعْنى أنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ إلَهًا إلّا هَواهُ - انْتَهى. فَلَوْ عَكَسَ لَقِيلَ: لَمْ يَتَّخِذْ هَوًى إلّا إلَهَهُ، وهو إذا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَبَ نَفْسَهُ الهَوى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ إلّا فِيما وافَقَ أمْرَ إلَهِهِ ومِمّا يُوَضِّحُ لَكَ (p-٣٩٤)انْعِكاسَ المَعْنى بِالتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ أنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلانٌ اتَّخَذَ عَبْدَهُ أباهُ، لَكانَ مَعْناهُ أنَّهُ عَظَّمَ العَبْدَ، ولَوْ قِيلَ: إنَّهُ اتَّخَذَ أباهُ عَبْدَهُ، لَكانَ مَعْناهُ أنَّهُ أهانَ الأبَ، وسَواءٌ في ذَلِكَ إتْيانُكَ بِهِ هَكَذا عَلى وِزانِ ما في القُرْآنِ أوْ نَكَّرْتَ أحَدَهُما، فَإنَّكَ لا تَجِدُ ذَوْقَكَ فِيهِ يَخْتَلِفُ في أنَّهُ إذا قَدَّمَ الحَقِيرَ شَرَّفَهُ، وإذا قَدَّمَ الشَّرِيفَ حَقَّرَهُ، وكَذا لَوْ قُلْتَ: اتَّخَذَ إصْطَبْلَهُ مَسْجِدًا أوْ صَدِيقَهُ أبًا أوْ عَكَسْتَ، ولَوْ كانَ التَّقْدِيمُ بِمُجَرَّدِ العِنايَةِ مِن غَيْرِ اخْتِلافٍ في الدَّلالَةِ قَدَّمَ في الجاثِيَةِ الهَوى، فَإنَّ السِّياقَ والسِّباقَ لَهُ، وحاصِلُ المَعْنى أنَّهُ اضْمَحَلَّ وصْفُ الإلَهِ، ولَمْ يَبْقَ إلّا الهَوى، فَلَوْ قَدَّمَ الهَوى لَكانَ المَعْنى أنَّهُ زالَ وغَلَبَتْ عَلَيْهِ صِفَةُ الإلَهِ، ولَمْ يَكُنْ يَنْظُرُ إلّا إلَيْهِ، ولا حُكْمَ إلّا لَهُ، كَما في الطِّينِ بِالنِّسْبَةِ إلى الخَزَفِ سَواءً - واللَّهُ أعْلَمُ. ولَمّا كانَ لا يَقْدِرُ عَلى صَرْفِ الهَوى إلّا اللَّهُ، تَسَبَّبَ عَنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلى هُداهم قَوْلُهُ: ﴿أفَأنْتَ تَكُونُ﴾ ولَمّا كانَ مُرادُهُ ﷺ حِرْصًا عَلَيْهِمْ ورَحْمَةً لَهم رَدَّهم عَنِ الغَيِّ ولا بُدَّ، عَبَّرَ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِ وكِيلا﴾ أيْ مِن قِبَلِ اللَّهِ بِحَيْثُ يَلْزَمُكَ أنْ تَرُدَّهُ عَنْ هَواهُ إلى ما أمَرَ بِهِ اللَّهُ قَسْرًا، لَسْتَ بِوَكِيلٍ، ولَكِنَّكَ (p-٣٩٥)رَسُولٌ، لَيْسَ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب