الباحث القرآني

﴿قالُوا﴾ أيِ المَعْبُوداتُ الحَيُّ مِنهم والجَمادُ، المُطِيعُ والعاصِي: ﴿سُبْحانَكَ﴾ أيْ تَنَزَّهَتْ عَنْ أنْ يُنْسَبَ إلى غَيْرِكَ قُدْرَةً عَلى فِعْلٍ مِنَ الأفْعالِ. ولَمّا أنْتَجَ التَّنْزِيهُ أنَّهم لا فِعْلَ لِغَيْرِهِ سُبْحانَهُ، عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿ما كانَ يَنْبَغِي﴾ أيْ يَصِحُّ ويُتَصَوَّرُ ﴿لَنا أنْ نَتَّخِذَ﴾ أيْ نَتَكَلَّفُ أنْ نَأْخُذَ بِاخْتِيارِنا مِن غَيْرِ إرادَةٍ مِنكَ ﴿مِن دُونِكَ﴾ وكُلُّ ما سِواكَ فَهو دُونُكَ ﴿مِن أوْلِياءَ﴾ أيْ يَنْفَعُونَنا، فَإنّا مُفْتَقِرُونَ إلى مَن يَنْفَعُنا لِحاجَتِنا وفَقْرِنا، فَكَيْفَ نَتْرُكُ مَن بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ وهو أقْرَبُ إلَيْنا في كُلِّ مَعْنًى مِن مَعانِي الوِلايَةِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ وغَيْرِهِما إلى مَن لا شَيْءَ بِيَدِهِ، وهو أبْعَدُ بِعِيدٍ مِن كُلِّ مَعْنًى مِن مَعانِي الوِلايَةِ، فَلَوْ تَكَلَّفْنا جَعْلَهُ قَرِيبًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وهَذِهِ عِبارَةٌ صالِحَةٌ سَواءٌ كانَتْ مِنَ الصّالِحِينَ مِمَّنْ عُبِدَ مِنَ الأنْبِياءِ والمَلائِكَةِ أوْ غَيْرِهِمْ، (p-٣٦٢)فَإنْ كانَتْ مِنَ الصّالِحِينَ فَمَعْناها: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ذَلِكَ فَلَمْ نَفْعَلْهُ وأنْتَ أعْلَمُ، كَما قالَ تَعالى ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ٧٩] الآيَةُ؛ وإنْ كانَتْ مِنَ الجَماداتِ فالمَعْنى: ما كُنّا في حَيِّزِ مَن يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، ولَكِنْ فَعَلُوهُ بَطَرًا؛ وإنْ كانَتْ مِن مِثْلِ فِرْعَوْنَ فالمَعْنى: ما كانَ لَنا هَذا، ولَكِنَّهم أنْزَلُونا هَذِهِ المَنزِلَةَ بِمُجَرَّدِ دُعائِنا لَهم كَما يَقُولُ إبْلِيسُ - فَما كانَ لَنا عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْناهم فاسْتَجابُوا، وذَلِكَ لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ في حَقائِقِ الأُمُورِ، فَألْقى الكُلُّ إلى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ، فَثَبَتَ أنَّهم لَيْسُوا في تِلْكَ الرُّتْبَةِ الَّتِي أنْزَلُوهم إيّاها، وفائِدَةُ السُّؤالِ مَعَ شُمُولِ عِلْمِهِ تَعالى تَبْكِيتُ المُعانِدِينَ وزِيادَةُ حَسَراتِهِمْ وأسَفِهِمْ، وتَغْبِيطُ المُؤْمِنِينَ إذا سَمِعُوا هَذا الجَوابَ، هَذا مَعَ ما في حِكايَتِهِ لَنا مِنَ المَوْعِظَةِ البالِغَةِ، وقِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ بِضَمِّ النُّونِ وفَتْحِ الخاءِ واضِحَةُ المَعْنى، أيْ يَتَّخِذُنا أحَدَ آلِهَةٍ نَتَوَلّى أُمُورَهُ. ولَمّا كانَ المَعْنى: إنّا ما أضْلَلْناهُمْ، أمّا إذا قُدِّرَ مِنَ المَلائِكَةِ ونَحْوِهِمْ فَواضِحٌ، وأمّا مِن غَيْرِهِمْ فَإنَّ المُضِلَّ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ، وفي الظّاهِرِ بَطَرُهُمُ النِّعْمَةَ، واتِّباعُهُمُ الشَّهَواتِ الَّتِي قَصُرَتْ بِهِمْ عَنْ إمْعانِ النَّظَرِ، وأوْقَفَتْهم مَعَ الظَّواهِرِ، حَسُنَ الِاسْتِدْراكُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ﴾ أيْ (p-٣٦٣)ما أضْلَلْناهم نَحْنُ، وإنَّما هم ضَلُّوا بِإرادَتِكَ لِأنَّكَ أنْتَ ﴿مَتَّعْتَهم وآباءَهُمْ﴾ في الحَياةِ الدُّنْيا بِما تَسْتَدْرِجُهم بِهِ مِن لَطائِفِ المِنَنِ، وأطَلْتَ أعْمارَهم في ذَلِكَ ﴿حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ الَّذِي لا يَنْبَغِي أنْ يُطْلَقَ الذِّكْرُ عَلى غَيْرِهِ، وهو الإيمانُ بِكُلِّ ما أرْسَلْتَ بِهِ سُبْحانَكَ رُسُلَكَ بِبُرِهانٍ ما يَعْرِفُهُ كُلُّ عاقِلٍ مِن نَفْسِهِ بِما وهَبْتَهُ مِن غَرِيزَةِ العَقْلِ مِن أنَّهُ يَصِحُّ بِوَجْهٍ أنْ يَكُونَ الإلَهُ إلّا واحِدًا، ما بَيْنَ العاقِلِ وبَيْنَ ذِكْرِ ذَلِكَ إلّا يَسِيرُ تَأمُّلٍ، مَعَ البَراءَةِ مِن شَوائِبِ الحُظُوظِ، والحاصِلُ أنَّكَ سَبَّبْتَ لَهم أسْبابًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلى الهِدايَةِ مَعَها، فَأنْتَ المَلِكُ الفَعّالُ لِما تُرِيدُ، لا فِعْلَ لِأحَدٍ سِواكَ ﴿وكانُوا﴾ في عِلْمِكَ بِما قَضَيْتَ عَلَيْهِمْ في الأزَلِ ﴿قَوْمًا بُورًا﴾ هَلْكى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب