الباحث القرآني
ولَمّا تَضَمَّنَ ما ذَكَرَ مِن وصْفِهِ تَعالى عِلْمَهُ بِالخَفِيّاتِ، أتْبَعَهُ ما هو كالعِلَّةِ لِآيَةِ ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] دَلِيلًا شُهُودِيًّا عَلى بَراءَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها فَقالَ: ﴿الخَبِيثاتُ﴾ أيْ مِنَ النِّساءِ وقَدَّمَ هَذا الوَصْفَ لِأنَّ كَلامَهم فِيهِ، فَإذا انْتَفى ثَبَتَ الطَّيِّبُ (p-٢٤٤)﴿لِلْخَبِيثِينَ﴾ أيْ مِنَ الرِّجالِ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ لا يَفْهَمُ أنَّ الخَبِيثَ مَقْصُورٌ عَلى الخَبِيثَةِ قالَ: ﴿والخَبِيثُونَ﴾ أيْ مِنَ الرِّجالِ أيْضًا ﴿لِلْخَبِيثاتِ﴾ أيْ مِنَ النِّساءِ.
ولَمّا أنْتَجَ هَذا بَراءَتَها رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لِأنَّها قَرِينَةُ أطْيَبِ الخَلْقِ، أكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿والطَّيِّباتُ﴾ أيْ مِنهُنَّ ﴿لِلطَّيِّبِينَ﴾ أيْ مِنهم ﴿والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ بِذَلِكَ قَضى العَلِيمُ الخَبِيرُ أنَّ كُلَّ شَكْلٍ يَنْضَمُّ إلى شَكْلِهِ، ويَفْعَلُ أفْعالَ مِثْلِهِ، وهو سُبْحانُهُ قَدِ اخْتارَ لِهَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ لِكَوْنِهِ أشْرَفَ خَلْقِهِ خُلَّصَ عِبادِهِ مِنَ الأزْواجِ والأوْلادِ والأصْحابِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] «خَيْرُكم قَرْنِي» وكُلَّما ازْدادَ الإنْسانُ مِنهم مِن قَلْبِهِ ﷺ قُرْبًا ازْدادَ طَهارَةً، وكَفى بِهَذا البُرْهانِ دَلِيلًا عَلى بَراءَةِ الصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فَكَيْفَ وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ العَظِيمُ في بَراءَتِها صَرِيحَ كَلامِهِ القَدِيمِ، وحاطَهُ مِن أوَّلِهِ وآخِرِهِ بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ المُشِيرَتَيْنِ إلى الدَّلِيلِ العادِي، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ آيَةِ ﴿الزّانِي﴾ [النور: ٣] ذِكْرٌ لِحَدِيثِ «الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» وما لاءَمَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبْ تَخْرِيجَهُ، (p-٢٤٥)وقَدْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ في الأدَبِ مِن صَحِيحِهِ وأبُو داوُدَ في سُنَنِهِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ» وفي رِوايَةٍ عَنْهُ رَفَعَها: «النّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، خِيارُهم في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهم في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا، والأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ» وهَذا الحَدِيثُ رُوِيَ أيْضًا عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وسَلْمانَ الفارِسِيِّ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وعَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وقَدْ عَلَّقَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ حَدِيثَ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بِصِيغَةِ الجَزْمِ، ووَصَلَهُ في كِتابِ الأدَبِ المُفْرِدِ وكَذا الإسْماعِيلِيُّ في المُسْتَخْرَجِ، وأبُو الشَّيْخِ في كِتابِ الأمْثالِ، وتَقَدَّمَ عَزَوُهُ إلى أبِي يَعْلى، ولَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «فَما كانَ في اللَّهِ ائْتَلَفَ، وما كانَ في غَيْرِ اللَّهِ اخْتَلَفَ» أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ في الأمْثالِ، ولَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «فَإذا التَقَتْ تَشامُّ كَما تَشامُّ الخَيْلُ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ» - (p-٢٤٦)الحَدِيثُ. وأمّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَواهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ في تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ السَّقْطِيِّ وأبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَندَهْ في كِتابِ الرُّوحِ عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا أبا الحَسَنِ ! رُبَّما شَهِدْتَ وغِبْنا ورُبَّما شَهِدْنا وغِبْتَ، ثَلاثٌ أسْألُكَ عَنْهُنَّ هَلْ عِنْدَكَ مِنهُنَّ عِلْمٌ؟ قالَ عَلِيٌّ: وما هُنَّ؟ قالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ ولَمْ يَرَ مِنهُ خَيْرًا، والرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ ولَمْ يَرَ مِنهُ شَرًّا، فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَعَمْ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: ”إنَّ الأرْواحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ“ قالَ عُمَرُ: واحِدَةٌ، قالَ: والرَّجُلُ يُحَدِّثُ الحَدِيثَ إذْ نَسِيَهُ (فَبَيْنا هو وما نَسِيَهُ) إذْ ذَكَرَهُ؟ فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”ما مِنَ القُلُوبِ قَلَبٌ إلّا ولَهُ سَحابَةٌ كَسَحابَةِ القَمَرِ، بَيْنَما القَمَرُ مُضِيءٌ إذْ عَلَتْهُ سَحابَةٌ فَأظْلَمَ إذْ تَجَلَّتْ فَأضاءَ، وبَيْنا القَلْبُ يَتَحَدَّثُ إذْ تَجَلَّلَتْهُ سَحابَةٌ فَنَسِيَ إذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَذَكَرَ“، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (p-٢٤٧)اثْنَتانِ، وقالَ: والرَّجُلُ يَرى الرُّؤْيا، فَمِنها ما يَصْدُقُ ومِنها ما يُكْذَبُ؟ قالَ: نَعَمْ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”ما مِن عَبْدٍ أوْ أمَةٍ يَنامُ فَيَسْتَثْقِلُ نَوْمًا إلّا عُرِجَ بِرُوحِهِ إلى العَرْشِ، فالَّتِي لا تَسْتَيْقِظُ إلّا عِنْدَ العَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيا الَّتِي تَصْدُقُ، والَّتِي تَسْتَيْقِظُ دُونَ العَرْشِ فَتِلْكَ الرُّؤْيا الَّتِي تُكْذَبُ“، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَلاثٌ كُنْتُ في طَلَبِهِنَّ فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أصَبْتُهُنَّ قَبْلَ المَوْتِ». .
وكَذا أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ حَدِيثَ سَلْمانَ كَحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، وأنْشَدُوا لِأبِي نُواسٍ في المَعْنى:
؎إنَّ القُلُوبَ لَأجْنادٌ مُجَنَّدَةٌ لِلَّهِ في الأرْضِ بِالأهْواءِ تَعْتَرِفُ
؎فَمًا تَعارَفَ مِنها فَهو مُؤْتَلِفُ ∗∗∗ وما تَناكَرَ مِنها فَهو مُخْتَلِفُ
ولَمّا ثَبَتَ هَذا كانَتْ نَتِيجَتُهُ قَطْعًا: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ العالُو الأوْصافِ بِالطَّهارَةِ والطِّيبِ ﴿مُبَرَّءُونَ﴾ بِبَراءَةِ اللَّهِ وبَراءَةِ كُلِّ مَن لَهُ تَأْمُّلٌ في مِثْلِ هَذا الدَّلِيلِ ﴿مِمّا يَقُولُونَ﴾ أيِ القَذْفَةُ الأخابِثُ لِأنَّها لا تَكُونُ (p-٢٤٨)زَوْجَةَ أطْيَبِ الطَّيِّبِينَ إلّا وهي كَذَلِكَ.
ولَمّا أثْبَتَ لَهُمُ البَراءَةَ، اسْتَأْنَفَ الإخْبارَ بِجَزائِهِمْ فَقالَ: ﴿لَهم مَغْفِرَةٌ﴾ أيْ لِما قَصَّرُوا فِيهِ إنْ قَصَّرُوا، ولَمّا كانَ في مَعْرِضِ الحَثِّ عَلى الإنْفاقِ عَلى بَعْضِ الآفِكِينَ قالَ: ﴿ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أيْ يَحْيَوْنَ بِهِ حَياةً طَيِّبَةً، ويُحْسِنُونَ لَهُ إلى مَن أساءَ إلَيْهِمْ، ولا يَنْقُصُهُ ذَلِكَ لِكَرَمِهِ في نَفْسِهِ بِسِعَتِهِ وطِيبِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن خِلالِ الكَرَمِ.
{"ayah":"ٱلۡخَبِیثَـٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَـٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَـٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا یَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق