الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ لَهم أنَّ فِكْرَهم فِيهِمْ يَكْفِيهِمْ، ولِاعْتِقادِ البَعْثِ يَعْنِيهِمْ، أتْبَعَهُ دَلِيلًا آخَرَ بِالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ ما هو أكْبَرُ مِنهُمْ، وبِتَدْبِيرِهِمْ بِخَلْقِهِ وخَلْقِ ما فِيهِ مِنَ المَنافِعِ لِاسْتِبْقائِهِمْ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ﴾ في جَمِيعِ جِهَةِ الفَوْقِ في ارْتِفاعٍ لا تُدْرِكُونَهُ حَقَّ الإدْراكِ ﴿سَبْعَ﴾ ولِإرادَةِ التَّعْظِيمِ أضافَ إلى جَمْعِ كَثْرَةٍ فَقالَ: ﴿طَرائِقَ﴾ أيْ سَماواتٍ لا تَتَغَيَّرُ عَنْ حالَتِها الَّتِي دَبَّرْناها عَلَيْها إلى أنْ نُرِيدَ، وبَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ مُتَطابِقَةً، وكُلُّ واحِدَةٍ مِنها عَلى طَرِيقَةٍ تَخُصُّها، وفِيها طُرُقٌ لِكَواكِبِها؛ قالَ الإمامُ عَبْدُ الحَقِّ الإشْبِيلِيُّ في كِتابِهِ الواعِي: سُمِّيَتْ طَرائِقَ لِأنَّها مُطارِقَةٌ بَعْضُها في أثَرِ بَعْضٍ - انْتَهى. وهَذا مِن قَوْلِهِمْ: فُلانٌ عَلى طَرِيقَةٍ - أيْ حالَةٍ - واحِدَةٍ، وهَذا مِطْراقُ هَذا، أيْ تَلْوُهُ ونَظِيرُهُ، ورِيشٌ طِراقٌ - إذا كانَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ. وقالَ ابْنُ القَطّاعِ: (p-١١٩)وأُطْرِقَ جَناحُ الطّائِرِ - أيْ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ: أُلْبِسَ الرِّيشُ الأعْلى الأسْفَلَ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ الهَرَوِيُّ: وأطْرَقَ جَناحُ الطَّيْرِ - إذا وقَعَتْ رِيشَةٌ عَلى الَّتِي تَحْتَها فَألْبَسَتْها، وفي رِيشِهِ طُرُقٌ - إذا رَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وقالَ الصَّغانِيُّ في مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ: والطَّرَقُ أيْضًا بِالتَّحْرِيكِ في الرِّيشِ أنْ يَكُونَ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وقالَ ابْنُ الأثِيرِ في النِّهايَةِ: طارَقَ النَّعْلَ - إذا صَيَّرَها طاقًا فَوْقَ طاقٍ ورَكَّبَ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ، وفي القامُوسِ: والطِّراقُ - كَكِتابٍ: كُلُّ خَصْفَةٍ يُخْصَفُ بِها النَّعْلُ وتَكُونُ حَذْوَها سَواءً وأنْ يُقَوَّرَ جِلْدٌ عَلى مِقْدارِ التُّرْسِ فَيُلْزَقَ بِالتُّرْسِ، وقالَ القَزّازُ: يُقالُ: تُرْسٌ مُطْرَقٌ - إذا جُعِلَ لَهُ ذَلِكَ، وقالَ الصَّغانِيُّ في المَجْمَعِ: والمَجانُ المِطْرَقَةُ الَّتِي يَطْرُقُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ كالنَّعْلِ المُطْرَقَةِ - أيِ المَخْصُوفَةِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، ويُقالُ: أُطْرِقَتْ بِالجِلْدِ والعَصَبِ، أيْ أُلْبِسَتْ، وقالَ أبُو عَبِيدٍ: طارَقَ النَّعْلَ - إذا صَيَّرَ خَصَفًا فَوْقَ خَصْفٍ، وقالَ في الخَصْفِ: هو إطْباقُ طاقٍ عَلى طاقٍ، وأصْلُ الخَصْفِ: الضَّمُّ والجَمْعُ، وقالَ القَزّازُ: وطارَقْتُ بَيْنَ النَّعْلَيْنِ والثَّوْبَيْنِ: جَعَلْتُ أحَدَهُما فَوْقَ الآخَرِ - انْتَهى. وأصْلُ الطَّرْقِ الضَّرْبُ، ومَعَ كَوْنِ السَّماواتِ مُطارِقَةٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فَهي طُرُقٌ لِلْمَلائِكَةِ يَتَنَزَّلُونَ فِيها بِأوامِرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. (p-١٢٠)ولَمّا كانَ إهْمالُ الشَّيْءِ بَعْدَ إيجادِهِ غَفْلَةً عَنْهُ، وكانَ البَعْثُ إحْداثَ تَدْبِيرٍ لَمْ يَكُنْ كَما أنَّ المَوْتَ كَذَلِكَ، بَيْنَ أنَّ مِثْلَ تِلْكَ الأفْعالِ الشَّرِيفَةِ عادَتُهُ سُبْحانَهُ إظْهارًا لِلْقُدْرَةِ وتَنَزُّهًا عَنِ العَجْزِ والغَفْلَةِ فَقالَ: ﴿وما كُنّا﴾ أيْ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿عَنِ الخَلْقِ﴾ أيِ الَّذِي خَلَقْناهُ وفَرَغْنا مِن إيجادِهِ وعَنْ إحْداثِ ما لَمْ يَكُنْ، بِقُدْرَتِنا التّامَّةِ وعِلْمِنا الشّامِلِ ﴿غافِلِينَ﴾ بَلْ دَبَّرْناهُ تَدْبِيرًا مُحْكَمًا رَبَطْناهُ بِأسْبابٍ تَنْشَأُ عَنْها مُسَبِّباتٌ يَكُونُ بِها صَلاحُهُ، وجَعَلْنا في كُلِّ سَماءٍ ما يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ فِيها مِنَ المَنافِعِ، وفي كُلِّ أرْضٍ كَذَلِكَ، وحَفِظْناهُ مِنَ الفَسادِ إلى الوَقْتِ الَّذِي نُرِيدُ فِيهِ طَيَّ هَذا العالَمِ وإبْرازَ غَيْرِهِ، ونَحْنُ مَعَ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ في شَأْنٍ، وإظْهارُ بُرْهانٍ، نَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها، وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها، إذا شِئْنا أنَفَذْنا السَّبَبَ فَنَشَأ عَنْهُ المُسَبَّبُ، وإذا شِئْنا مَنَعْناهُ مِمّا هُيِّئَ لَهُ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ إلّا بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِنا أنّا نَتْرُكُ الخَلْقَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ سُدًى، مَعَ أنَّ فِيهِمُ المُطِيعَ الَّذِي لَمْ نُوفِّهِ ثَوابَهُ، والعاصِي الَّذِي لَمْ نُنْزِلْ بِهِ عِقابَهُ، أمْ كَيْفَ لا نَقْدِرُ عَلى إعادَتِهِمْ إلى ما كانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ما قَدَرْنا عَلى إبْداعِهِمْ ولَمْ يَكُونُوا شَيْئًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب