الباحث القرآني

ولَمّا كانَ تَصْيِيرُ الماءِ دَمًا أمْرًا بالِغًا خارِجًا عَنِ التَّسْبِيبِ، وكانَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي هي مَبْدَأُ الآدَمِيِّ تَفْسُدُ تارَةً وتَأْخُذُ في التَّكَوُّنِ أُخْرى، عَبَّرَ بِالخَلْقِ لِما يَخْلِطُها بِهِ مِمّا تَكْتَسِبُهُ مِنَ الرَّحِمِ عِنْدَ التَّحْمِيرِ وقَرَنَهُ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ بَعْدَ تَراخٍ في الزَّمانِ وعُلُوٍّ في الرُّتْبَةِ والعَظْمَةِ ﴿خَلَقْنا﴾ أيْ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿النُّطْفَةَ﴾ أيِ البَيْضاءَ جِدًّا ﴿عَلَقَةً﴾ حَمْراءَ دَمًا عَبِيطًا شَدِيدَ الحُمْرَةِ جامِدًا غَلِيظًا. (p-١١٦)ولَمّا كانَ ما بَعْدَ العَلَقَةِ مِنَ الأطْوارِ المُتَصاعِدَةِ مُسَبِّبًا كُلَّ واحِدٍ مِنهُ عَمّا قَبْلَهُ بِتَقْدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ مِن غَيْرِ تَراخٍ، ولَيْسَ تَسَبُّبُهُ مِنَ العادَةِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْها غَيْرُهُ سُبْحانَهُ، عَبَّرَ بِالفاءِ والخَلْقُ فَقالَ: ﴿فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ أيْ قِطْعَةَ لَحْمٍ صَغِيرَةٍ لا شَكْلَ فِيها ولا تَخْطِيطَ ﴿فَخَلَقْنا المُضْغَةَ﴾ بِتَصْفِيَتِها وتَصْلِيبِها بِما سَبَّبْنا لَها مِنَ الحَرارَةِ والأُمُورِ اللَّطِيفَةِ الغامِضَةِ ﴿عِظامًا﴾ مِن رَأْسٍ ورِجْلَيْنِ وما بَيْنَهُما ﴿فَكَسَوْنا﴾ بِما لَنا مِن قُدْرَةٍ الِاخْتِراعِ، تِلْكَ ﴿العِظامَ لَحْمًا﴾ بِما ولَّدْنا مِنها تَرْجِيعًا لِحالِها قَبْلَ كَوْنِها عَظْمًا، فَسَتَرْنا تِلْكَ العِظامَ وقَوَّيْناها وشَدَدْناها بِالرَّوابِطِ والأعْصابِ. ولَمّا كانَ التَّصْوِيرُ ونَفْخُ الرُّوحِ مِنَ الجَلالَةِ بِمَكانٍ أيِّ مَكانٍ، أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ﴾ أيْ هَذا المُحَدَّثَ عَنْهُ بِعَظَمَتِنا ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾ أيْ عَظِيمًا جَلِيلًا مُتَحَرِّكًا ناطِقًا خَصِيمًا مُبِينًا بَعِيدًا مِنَ الطِّينِ جِدًّا؛ قالَ الرّازِي: وأصْلُ النُّونِ والشِّينِ والهَمْزَةِ يَدُلُّ عَلى ارْتِفاعِ شَيْءٍ وسُمُوِّهِ. ولَمّا كانَ هَذا التَّفْصِيلُ لِتَطْوِيرِ الإنْسانِ سَبَبًا لِتَعْظِيمِ الخالِقِ: ﴿فَتَبارَكَ﴾ أيْ ثَبَتَ ثَباتًا لَمْ يُثْبِتْهُ شَيْءٌ، بِأنْ حازَ جَمِيعَ صِفاتِ الكَمالِ، وتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ، فَكانَ قادِرًا عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ولَوْ داناهُ (p-١١٧)شَيْءٌ مِن عَجْزٍ لَمْ يَكُنْ تامَّ الثَّباتِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿اللَّهُ﴾ فَعَبَّرَ بِالِاسْمِ العَلَمِ الجامِعِ لِجَمِيعِ الأسْماءِ الحُسْنى؛ وأشارَ إلى جَمالِ الإنْسانِ بِقَوْلِهِ: ﴿أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ أيِ المُقَدِّرِينَ، أيْ قَدْرَ هَذا الخَلْقِ العَجِيبِ هَذا التَّقْدِيرَ، ثُمَّ طَوَّرَهُ في أطْوارِهِ ما بَيْنَ طِفْلٍ رَضِيعٍ، ومُحْتَلِمٍ شَدِيدٍ، وشابٍّ نَشِيطٍ، وكَهْلٍ عَظِيمٍ، وشَيْخٍ هَرَمٍ - إلى ما بَيْنَ ذَلِكَ مِن شُؤُونٍ لا يُحِيطُ بِها إلّا اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب