الباحث القرآني

ولَمّا كانَ الجِهادُ أساسَ العِبادَةِ، وهو - مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً في قِتال الكُفّارِ - صالِحٌ لِأنَّ يَعُمَّ كُلَّ أمْرٍ بِمَعْرُوفٍ ونَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ بِالمالِ والنَّفْسِ بِالقَوْلِ والفِعْلِ بِالسَّيْفِ وغَيْرِهِ، وكُلَّ اجْتِهادٍ في تَهْذِيبِ (p-١٠١)النَّفْسِ وإخْلاصِ العَمَلِ، خَتَمَ بِهِ فَقالَ: ﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ في كُلِّ ما يُنْسَبُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، لا يَخْرُجُ مِنهُ شَيْءٌ عَنْهُ كَما لا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ المَظْرُوفِ عَنِ الظَّرْفِ ﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ بِاسْتِفْراغِ الطّاقَةِ في إيقاعِ كُلِّ ما أمَرَ بِهِ مِن جِهادِ العَدُوِّ والنَّفْسِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أمَرَ بِهِ مِنَ الحَجِّ والغَزْوِ وغَيْرِهِما جِهادًا يَلِيقُ بِما أفْهَمَتْهُ الإضافَةُ إلى ضَمِيرِهِ سُبْحانَهُ مِنَ الإخْلاصِ والقُوَّةِ، فَإنَّهُ يَهْلَكُ جَمِيعُ مَن يَصُدُّكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ. ولَمّا أمَرَ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الأوامِرِ، أتْبَعَها بَعْضَ ما يَجِبُ بِهِ شُكْرُهُ، وهو كالتَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ، فَقالَ: ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ أيِ اخْتارَكم لِجَعْلِ الرِّسالَةِ فِيكم والرَّسُولِ مِنكم وجَعَلَهُ أشْرَفَ الرُّسُلِ، ودِينَهُ أكْرَمَ الأدْيانِ، وكِتابَهُ أعْظَمَ الكُتُبِ، وجَعَلَكم - لِكَوْنِكم أتْباعَهُ - خَيْرَ الأُمَمِ ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ﴾ الَّذِي اخْتارَهُ لَكم ﴿مِن حَرَجٍ﴾ أيْ ضِيقٍ يَكُونُ بِهِ نَوْعُ عُذْرٍ لِمَن تَوانى في الجِهادِ الأصْغَرِ والأكْبَرِ كَما جَعَلَ عَلى مَن كانَ قَبْلَكم كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَعْضَهُ في البَقَرَةِ وغَيْرِها، أعْنِي ﴿مِلَّةَ﴾ (p-١٠٢)ولَمّا كانَ أوَّلُ مُخاطَبٍ بِهَذا قُرَيْشًا، ثُمَّ مُضَرَ، وكانُوا كُلُّهم أوْلادَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَقِيقَةً، قالَ: ﴿أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ أيِ الَّذِي تَرَكَ عِبادَةَ الأصْنامِ ونَهى عَنْها، ووَحَّدَ اللَّهَ وأمَرَ بِتَوْحِيدِهِ، يا مَن تَقَيَّدُوا بِتَقْلِيدِ الآباءِ! فالزَمُوا دِينَهُ لِكَوْنِهِ أبًا، ولِكَوْنِي أمَرْتُ بِهِ، وهو أبٌ لِبَعْضِ المُخاطَبِينَ مِنَ الأُمَّةِ حَقِيقَةً، ولِبَعْضِهِمْ مَجازًا بِالِاحْتِرامِ والتَّعْظِيمِ، فَيَعُمُّ الخِطابُ الجَمِيعَ، ولِذَلِكَ حَثَّهم عَلى مِلَّتِهِ بِالتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ﴾ أيْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ﴾ في الأزْمانِ المُتَقَدِّمَةِ ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ قَبْلِ إنْزالِ هَذا القُرْآنِ، فَنَوَّهَ بِذِكْرِكم والثَّناءِ عَلَيْكم في سالِفِ الدَّهْرِ وقَدِيمِ الزَّمانِ فَكَتَبَ ثَناءَهُ في كُتُبِ الأنْبِياءِ يُتْلى عَلى الأحْبارِ والرُّهْبانِ، وسَمّاكم أيْضًا مُسْلِمِينَ ﴿وفِي هَذا﴾ الكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكم مِن بَعْدِ إنْزالِ تِلْكَ الكُتُبِ كَما أخْبَرْتُكم عَنْ دَعْوَتِهِ في قَوْلِهِ ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] لِأنَّهُ بِانْتِفاءِ الحَرَجِ يُطابِقُ الِاسْمُ المُسَمّى، ويَجُوزُ - ولَعَلَّهُ أحْسَنُ - أنْ يَكُونَ ﴿هُوَ سَمّاكُمُ﴾ تَعْلِيلًا لِلْأمْرِ بِحَقِّ الجِهادِ بَعْدَ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعالى، ويَشْهَدُ لَهُ بِالحُسْنِ قِراءَةُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالجَلالَةِ عِوَضًا عَنِ الضَّمِيرِ، أيْ أنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَسَمَّتْ بِاسْمٍ مِن تِلْقاءِ نَفْسِها، واللَّهُ تَعالى خَصَّكم بِاسْمِ الإسْلامِ مُشْتَقًّا لَهُ مِنَ اسْمِهِ ”السَّلام“ مَعَ ما خَصَّكم بِهِ مِنِ (p-١٠٣)اسْمِ الإيمانِ اشْتِقاقًا لَهُ مِنِ اسْمِهِ المُؤْمِنِ، فَأثْبَتَ لَكم هَذا الِاسْمَ في كُتُبِهِ، واجْتَباكم لِاتِّباعِ رَسُولِهِ. ولَمّا كانَ الِاسْمُ إذا كانَ ناشِئًا عَنِ اللَّهِ تَعالى سَواءً كانَ بِواسِطَةِ نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ يَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ كِيانِ المُسَمّى، وكانَ التَّقْدِيرُ: رَفَعَ عَنْكُمُ الحَرَجَ وسَمّاكم بِالإسْلامِ لِتَكُونُوا أشَدَّ الأُمَمِ انْقِيادًا لِتَكُونُوا خَيْرَهُمْ، عَلَّلَ هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ لِأنَّهُ خَيْرُكُمْ، والشَّهِيدُ يَكُونُ خَيْرًا ولِكَوْنِ السِّياقِ لِإثْباتِ مُطْلَقِ وصْفِ الإسْلامِ فَقَطْ، لَمْ يَقْتَضِ الحالُ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ بِخِلافِ آيَةِ البَقَرَةِ، فَإنَّها لِإثْباتِ ما هو أخَصُّ مِنهُ ﴿وتَكُونُوا﴾ بِما في جَبِلّاتِكم مِنَ الخَيْرِ ﴿شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ بِأنَّ رُسُلَهم بَلَّغَتْهم رِسالاتِ رَبِّهِمْ، لِأنَّكم قَدَرْتُمُ الرُّسُلَ حَقَّ قَدْرِهِمْ، ولَمْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ، وعَلِمْتُمْ أخْبارَهم مِن كِتابِكم عَلى لِسانِ رَسُولِكم ﷺ، فَبِذَلِكَ كُلِّهِ صِرْتُمْ خَيْرَهُمْ، فَأُهِّلْتُمْ لِلشَّهادَةِ وصَحَّتْ شَهادَتُكم وقَبْلَكُمُ الحَكَمُ العَدْلُ، وقَدْ دَلَّ هَذا عَلى أنَّ الشَّهادَةَ غَيْرُ المُسْلِمِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً. ولَمّا نَدَبَهم لِأنَّ يَكُونُوا خَيْرَ النّاسِ، تَسَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَأقِيمُوا﴾ (p-١٠٤)أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ إنْعامِي عَلَيْكم بِهَذِهِ النِّعَمِ وإقامَتِي لَكم في هَذا المَقامِ الشَّرِيفِ أنِّي أقُولُ لَكُمْ: أقِيمُوا ﴿الصَّلاةَ﴾ الَّتِي هي زَكاةُ قُلُوبِكُمْ، وصِلَةُ ما بَيْنَكم وبَيْنَ رَبِّكم ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ الَّتِي هي طُهْرَةُ أبْدانِكُمْ، وصِلَةُ ما بَيْنَكم وبَيْنَ إخْوانِكم ﴿واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾ أيِ المُحِيطِ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ. فِي جَمِيعِ ما أمَرَكم بِهِ، مِنَ المَناسِكِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وغَيْرِها لِتَكُونُوا مُتَّقِينَ، فَيَذُبُّ عَنْكم مَن يُرِيدُ أنْ يَحُولَ بَيْنَكم وبَيْنَ شَيْءٍ مِنها ويَقِيكم هَوْلَ السّاعَةِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ أهْلِيَّتَهُ لِاعْتِصامِهِمْ بِهِ بِقَوْلِهِ: ( هو ) أيْ وحْدَهُ ﴿مَوْلاكُمْ﴾ أيِ المُتَوَلِّي لِجَمِيعِ أُمُورِكُمْ، فَهو يَنْصُرُكم عَلى كُلِّ مَن يُعادِيكُمْ، بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُونَ مِن إظْهارِ هَذا الدِّينِ مِن مَناسِكِ الحَجِّ وغَيْرِها؛ ثُمَّ عَلَّلَ الأمْرَ بِالِاعْتِصامِ وتَوَحُّدُهُ بِالوِلايَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَنِعْمَ المَوْلى﴾ أيْ هو ﴿ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ لِأنَّهُ إذا تَوَلّى أحَدًا كَفاهُ كُلَّ ما أهَمَّهُ، وإذا نَصَرَ أحَدًا أعْلاهُ عَلى كُلِّ مَن خاصَمَهُ «ولا يَزالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أحَبَّهُ فَإذا أحْبَبْتُهُ» - الحَدِيثُ، «إنَّهُ لا يَذِلُّ مَن والَيْتَ ولا يَعِزُّ مَن عادَيْتَ» وهَذا نَتِيجَةُ التَّقْوى، وما قَبْلَهُ مِن أفْعالِ الطّاعَةِ دَلِيلُها. فَقَدِ انْطَبَقَ آخِرُ السُّورَةِ عَلى أوَّلِها. ورُدَّ مَقْطَعُها عَلى مَطْلَعِها - واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ وأسْرارِ كِتابِهِ وهو الهادِي لِلصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب