الباحث القرآني

ثُمَّ اسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ أيْ أيُّها المُخاطَبُ ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الحائِزَ لِصِفاتِ الكَمالِ، مِنَ الجَلالِ والجَمالِ ﴿سَخَّرَ لَكُمْ﴾ فَضْلًا مِنهُ ﴿ما في الأرْضِ﴾ كُلَّهُ مِن مَسالِكِها وفِجاجِها وما فِيها مِن حَيَوانٍ وجَمادٍ، وزُرُوعٍ وثِمارٍ، فَعَلِمَ أنَّهُ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى شَيْءٍ مِنهُ ولَمّا كانَ تَسْخِيرُ السُّلُوكِ في البَحْرِ مِن أعْجَبِ العَجَبِ، قالَ: ﴿والفُلْكَ﴾ أيْ وسَخَّرَها لَكم مُوسِقَةً بِما تُرِيدُونَ مِنَ البَضائِعِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَسْخِيرَها بِقَوْلِهِ: ﴿تَجْرِي في البَحْرِ﴾ أيِ العَجاجِ، المُتَلاطِمِ بِالأمْواجِ، بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ عَلى لُطْفٍ وتُؤَدَةٍ. ولَمّا كانَ الرّاكِبُ فِيها - مَعَ حَثِيثِ السَّيْرِ وسُرْعَةِ المَرِّ - مُسْتَقِرًّا كَأنَّهُ عَلى الأرْضِ، عَظُمَ الشَّأْنُ في سَيْرِها بِقَوْلِهِ: ﴿بِأمْرِهِ﴾ ولَمّا كانَ إمْساكُها عَلى وجْهِ الماءِ مَعَ لَطافَتِهِ عَنِ الغَرَقِ أمْرًا غَرِيبًا كَإمْساكِ السَّماءِ عَلى مَتْنِ الهَواءِ عَنِ الوُقُوعِ، أتْبَعَهُ قَوْلَهُ: ﴿ويُمْسِكُ السَّماءَ﴾ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُبْدِلًا: ﴿أنْ تَقَعَ﴾ أيْ مَعَ عُلُوِّها وعِظَمِها وكَوْنِها بِغَيْرِ عِمادٍ ﴿عَلى الأرْضِ﴾ الَّتِي هي تَحْتَها. ولَمّا اقْتَضى السِّياقُ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ تَقَعَ لِانْحِلالِهِ إلى أنْ يَمْنَعَ (p-٨٥)وُقُوعَها لِأنَّها جِسْمٌ كَثِيفٌ عَظِيمٌ، لَيْسَ لَهُ مِن طَبْعِهِ إلّا السُّفُولُ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا بِإذْنِهِ﴾ أيْ فَيَقَعُ إذا أذِنَ في وُقُوعِها حِينَ يُرِيدُ طَيَّ هَذا العالِمِ وإيجادَ عالَمِ البَقاءِ. ولَمّا كانَ هَذا الجُودُ الأعْظَمُ والتَّدْبِيرُ المُحْكَمُ مَحْضَ كَرَمٍ مِن غَيْرِ حاجَةٍ أصْلًا، أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ. ولَمّا كانَ الجَمادُ كُلُّهُ مَتاعًا لِلْحَيَوانِ، اقْتَضى تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: ﴿بِالنّاسِ﴾ أيْ عَلى ظُلْمِهِمْ ﴿لَرَءُوفٌ﴾ أيْ بِما يَحْفَظُ مِن سَرائِرِهِمْ عَنِ الزَّيْغِ بِإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ ونَصْبِ المَناسِكِ، الَّتِي يَجْمَعُ مُعْظَمَها البَيْتُ الَّذِي بَوَّأهُ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو التَّوْحِيدُ والصَّلاةُ والحَجُّ الحامِلُ عَلى التَّقْوى الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْها السُّورَةُ، فَإنَّ الرَّأْفَةَ كَما قالَ الحِرالِيُّ: ألْطَفُ الرَّحْمَةِ وأبْلَغُها، فالمَرْؤُوفُ بِهِ تُقِيمُهُ عِنايَةُ الرَّأْفَةِ حَتّى تَحْفَظَ بِمَسْراها في سِرِّهِ ظُهُورَ ما يَسْتَدْعِي العَفْوَ، وتارَةً يَكُونُ هَذا الحِفْظُ بِالقُوَّةِ بِنَصْبِ الأدِلَّةِ، وتارَةً يَضُمُّ إلى ذَلِكَ الفِعْلِ بِخَلْقِ الهِدايَةِ في القَلْبِ، وهَذا خاصٌّ بِمَن لَهُ بِالمُنْعِمِ نَوْعُ وُصْلَةٍ. ﴿رَحِيمٌ﴾ بِما يَثْبُتُ لَهم عُمُومًا مِنَ الدَّرَجاتِ عَلى ما مَنَحَهم بِهِ مِن ثَمَراتِ (p-٨٦)ذَلِكَ الحِفْظِ مِنَ الأعْمالِ المُرْضِيَةِ لِما تَقَدَّمَ في الفاتِحَةِ مِن أنَّ الرَّحِيمَ خاصُّ الرَّحْمَةِ بِما تَرْضاهُ الإلَهِيَّةُ، وتَقَدَّمَ في البَقَرَةِ تَحْقِيقُ هَذا المَوْضِعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب