الباحث القرآني

ولَمّا حَذَّرَ النّاسَ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ، وأخْبَرَ أنَّ مِنهم مَن يُكَذِّبُ، وعَرَّفَ بِمَآلِهِ، فَأفْهَمَ ذَلِكَ أنَّ مِنهم مَن يُصَدِّقُ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ ضِدُّ حالِهِ، وكانَ كَثِيرٌ مِنَ المُصَدِّقِينَ يَعْمَلُونَ عَمَلَ المُكَذِّبِينَ، أقْبَلَ عَلَيْهِمْ سُبْحانَهُ إقْبالًا ثانِيًا رَحْمَةً لَهُمْ، مُنَبِّهًا عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ لا يَكُونَ عِنْدَهم نَوْعٌ مِنَ الشَّكِّ في ذَلِكَ اليَوْمِ لِما عَلَيْهِ مِنَ الآياتِ في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ، فَقالَ دالًّا عَلَيْهِ بِالأمْرَيْنِ: ﴿يا أيُّها النّاسُ﴾ أيْ كافَّةً، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ المُنْكَرُ فَقَطْ، وعَبَّرَ بِالنّاسِ الَّذِي هو مِن أسْفَلِ الأوْصافِ لِذَلِكَ، وإشارَةً إلى أنَّ المُنْكَرَ والعامِلَ عَمَلَهُ - وإنْ كانَ مُصَدِّقًا - هم أكْثَرُ النّاسِ، وعَبَّرَ بِأداةِ الشَّكِّ إشارَةً إلى أنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الحالُ جَزْمُهم بِهِ فَقالَ: ﴿إنْ﴾ وبَيَّنَ أنَّهُ ما (p-٩)عَبَّرَ بِهِ إلّا لِلتَّوْبِيخِ، لا لِلشَّكِّ في أمْرِهِمْ، بِجَعْلِ الشَّرْطِ ماضِيًا، ودَلَّ بِ ”كانَ“ وبِالظَّرْفِ عَلى ما تَمَكَّنَ الرَّيْبُ مِنهم فَقالَ: ﴿كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾ أيْ شَكٍّ وتُهْمَةٍ وحاجَةٍ إلى البَيانِ ﴿مِنَ البَعْثِ﴾ وهو قِيامُ الأجْسامِ بِأرْواحِها كَما كانَتْ قَبْلَ مَماتِها سَواءً، اسْتِعْظامًا لِأنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴿فَإنّا خَلَقْناكُمْ﴾ بِقُدْرَتِنا الَّتِي لا يَتَعاظَمُها شَيْءٌ ﴿مِن تُرابٍ﴾ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ اتِّصافٌ بِالحَياةِ ﴿ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ﴾ حالُها أبَعَدُ شَيْءٍ عَنْ حالِ التُّرابِ، فَإنَّها بَيْضاءُ سائِلَةٌ لَزِجَةٌ صافِيَةٌ كَما قالَ ﴿مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] وأصْلُها الماءُ القَلِيلُ - قالَهُ البَغَوِيُّ. وأصْلُ النُّطَفِ الصَّبُّ - قالَهُ البَيْضاوِيُّ. ﴿ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ﴾ أيْ قِطْعَةِ دَمٍ حَمْراءَ جامِدَةٍ، لَيْسَ فِيها أهْلِيَّةٌ لِلسَّيَلانِ ﴿ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ﴾ أيْ قِطْعَةِ لَحْمٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا تَطَوَّرَتْ إلَيْها النُّطْفَةُ ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ بِخِلْقَةِ الآدَمِيِّ التَّمامِ ﴿وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أيْ أنْشَأْناكم مِن تُرابٍ يَكُونُ هَذا شَأْنَهُ، وهو أنّا نَنْقُلُهُ في هَذِهِ الأطْوارِ إلى أنْ يَصِيرَ مُضْغَةً، فَتارَةً يَخْلُقُها ويَكُونُ مِنها آدِمِيًّا، وتارَةً لا يَخْلُقُها بَلْ يُخْرِجُها مِنَ الرَّحِمِ فاسِدَةً، أوْ تُحْرِقُها حَرارَتُهُ، أوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ تَخْلِيقًا تامًّا بَلْ ناقِصًا مَعَ وُجُودِ الرُّوحِ كَشِقِّ الَّذِي كانَ شِقَّ آدَمِيٍّ، وسَطِيحٍ الَّذِي كانَ عُلْوًا بِلا سُفْلٍ ونَحْوِهِما ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ كَمالَ قُدْرَتِنا، وتَمامَ حِكْمَتِنا، وأنَّ (p-١٠)ذَلِكَ لَيْسَ كائِنًا عَنِ الطَّبِيعَةِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ عَنْها لَمْ يَخْتَلِفْ، فَدَلَّ اخْتِلافُهُ عَلى أنَّهُ عَنْ فاعِلٍ مُخْتارٍ، قادِرٍ قَهّارٍ، وحُذِفَ المَفْعُولُ إشارَةً إلى أنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ما يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ بِهِ العُقُولُ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَنُجْهِضُ مِنهُ ما لا نَشاءُ إتْمامَهُ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ونُقِرُّ في الأرْحامِ﴾ أيْ مِن ذَلِكَ الَّذِي خَلَقْناهُ ﴿ما نَشاءُ﴾ إتْمامَهُ ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ قَدَّرْناهُ لِإتْمامِهِ ما بَيْنَ سِتَّةِ أشْهُرٍ إلى ما نُرِيدُ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى ذَلِكَ، بِحَسِبِ قُوَّةِ الأرْحامِ وضَعْفِها، وقُوَّةِ المُخَلَّقاتِ وضَعْفِها وكَثْرَةِ ما تَغْتَذِيهِ مِنَ الدِّماءِ وقِلَّتِهِ، وزَكائِهِ وخُبْثِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أحْوالٍ وشُؤُونٍ لا يَعْلَمُها إلّا بارِئُها، جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وتَعالَتْ عَظَمَتُهُ، وأمّا ما لَمْ نَشَأْ إتْمامَهُ فَإنَّ الأرْحامَ تَمُجُّهُ بِقُدْرَتِنا وتُلْقِيهِ دُونَ التَّمامِ أوْ تُحْرِقُهُ فَيَضْمَحِلُّ ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ﴾ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿طِفْلا﴾ أيْ في حالِ الطُّفُولَةِ مِن صِغَرِ الجُثَّةِ وضَعْفِ البَدَنِ والسَّمْعِ والبَصَرِ وجَمِيعِ الحَواسِّ، لِئَلّا تُهْلِكُوا أُمَّهاتِكم بِكِبَرِ أجْرامِكُمْ، وعِظَمِ أجْسامِكُمْ، وهو يَقَعُ عَلى الجَمْعِ، وعَبَّرَ بِهِ دُونَهُ لِلتَّساوِي في ضَعْفِ الظّاهِرِ والباطِنِ. ولَمّا ذَكَرَ أضْعَفَ الضَّعْفِ ذَكَرَ أقْوى القُوَّةِ عاطِفًا لَهُ (p-١١)عَلَيْهِ لِما بَيْنَهُما مِنَ المُهْلَةِ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ نَمُدُّ أجْلَكم ﴿لِتَبْلُغُوا﴾ بِالِانْتِقالِ في أسْنانِ الأجْسامِ فِيما بَيْنَ الرَّضاعِ، إلى حالِ اليَفاعِ، إلى زَمانِ الِاحْتِلامِ، وقُوَّةِ الشَّبابِ والتَّمامِ ﴿أشُدَّكُمْ﴾ أيْ نِهايَةَ كُلِّ شِدَّةٍ قَدَّرْناها لِكُلِّ واحِدٍ مِنكم ﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى﴾ قَبْلَ ما بَعْدَ ذَلِكَ مِن سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ﴾ بِالشَّيْخُوخَةِ، وبَناهُ لِلْمَجْهُولِ إشارَةً إلى سُهُولَتِهِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِبْعادِهِ لَوْلا تَكَرُّرُ المُشاهَدَةِ عِنْدَ النّاظِرِ لِتِلْكَ القُوَّةِ والنَّشاطِ وحُسْنِ التَّواصُلِ بَيْنَ أعْضائِهِ والِارْتِباطِ ﴿إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ وهو سِنُّ الهَرَمِ فَيَنْقُصُ جَمِيعُ قُواهُ ﴿لِكَيْلا يَعْلَمَ﴾ ولَمّا كانَ السِّياقُ لِلْقُدْرَةِ عَلى البَعْثِ الَّذِي هو التَّحْوِيلُ مِن حالِ الجَمادِيَّةِ إلى ضِدِّهِ بِغايَةِ السُّرْعَةِ، أثْبَتَ ”مِن“ الِابْتِدائِيَّةَ لِلدَّلالَةِ عَلى قُرْبِ زَمَنِ الجَهْلِ مِن زَمَنِ العِلْمِ، فَرُبَّما باتَ الإنْسانُ في غايَةِ الِاسْتِحْضارِ لِما يَعْلَمُ والحِذْقِ فِيهِ فَعادَ في صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ أوْ بَعْدَ أيّامٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا مِن غَيْرِ كَبِيرِ تَدْرِيجٍ لا يَعْلَمُ شَيْئًا، وأفْهَمَ إسْقاطُ حَرْفِ الِانْتِهاءِ أنَّهُ رُبَّما عادَ إلَيْهِ عِلْمُهُ، ورُبَّما اتَّصَلَ جَهْلُهُ بِالمَوْتِ بِخِلافِ ما مَضى في النَّحْلِ فَقالَ: ﴿مِن بَعْدِ عِلْمٍ﴾ كانَ أُوتِيَهُ ﴿شَيْئًا﴾ بَلْ يَصِيرُ كَما كانَ طِفْلًا في ضِعْفِ الجَواهِرِ والأعْراضِ، لِتَعْلَمُوا أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِعْلُ الإلَهِ الواحِدِ المُخْتارِ، وأنَّهُ لَوْ كانَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ لازْدادَ بِطُولِ البَقاءِ نُمُوًّا في جَمِيعِ ذَلِكَ، وقَدْ عُلِمَ - بِعَوْدِ الإنْسانِ في ذَهابِ العِلْمِ وصِغَرِ الجِسْمِ إلى نَحْوِ (p-١٢)ما كانَ عَلَيْهِ في ابْتِداءِ الخَلْقِ - قَطْعًا أنَّ الَّذِي أعادَهُ إلى ذَلِكَ قادِرٌ عَلى إعادَتِهِ بَعْدَ المَماتِ، والكَوْنِ عَلى حالِ الرُّفاتِ. ولَمّا تَمَّ هَذا الدَّلِيلُ عَلى السّاعَةِ مُحْكَمَ المُقَدِّماتِ واضِحَ النَّتائِجِ، وكانَ أوَّلُ الإيجادِ فِيهِ غَيْرَ مُشاهَدٍ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِما يَلِيقُ بِهِ، أتْبَعَهُ دَلِيلًا آخَرَ مَحْسُوسًا، وعَطَفَهُ عَلى ما أرْشَدَ إلَيْهِ التَّقْدِيرُ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ: تَجِدُونَ أيُّها النّاسُ ما ذَكَرْناهُ في أنْفُسِكُمْ، فَقالَ: ﴿وتَرى﴾ فَعَبَّرَ بِالرُّؤْيَةِ ﴿الأرْضَ﴾ ولَمّا كانَ في سِياقِ البَعْثِ، عَبَّرَ بِما هو أقْرَبُ إلى المَوْتِ فَقالَ: ﴿هامِدَةً﴾ أيْ يابِسَةً مُطْمَئِنَّةً ساكِنَةً سُكُونَ المَيِّتِ لَيْسَ بِها شَيْءٌ مِن نَبْتٍ، ولَعَلَّهُ أفْرَدَ الضَّمِيرَ تَوْجِيهًا إلى كُلِّ مَن يَصْلُحُ أنْ يُخاطَبَ بِذَلِكَ ﴿فَإذا﴾ أيْ فَنُنْزِلُ عَلَيْها ماءً مِن مَكانٍ لا يُوجَدُ فِيهِ ثُمَّ يَنْزِلُ مِنهُ إلّا بِقُدْرَةٍ عَظِيمَةٍ وقَهْرٍ باهِرٍ، فَإذا ﴿أنْـزَلْنا﴾ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ﴾ أيْ تَحَرَّكَتْ بِنُجُومِ النَّباتِ اهْتِزازَ الحَيِّ، وتَأهَّلَتْ لِإخْراجِهِ؛ قالَ الرّازِي: والِاهْتِزازُ: شِدَّةُ الحَرَكَةِ في الجِهاتِ المُخْتَلِفَةِ. ﴿ورَبَتْ﴾ أيِ انْتَفَخَتْ، وذَلِكَ أوَّلُ ما يَظْهَرُ مِنها لِلْعَيْنِ وزادَتْ ونَمَتْ بِما يَخْرُجُ مِنها مِنَ النَّباتِ النّاشِئِ عَنِ التُّرابِ والماءِ ﴿وأنْبَتَتْ﴾ بِتَقْدِيرِنا ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾ أيْ صِنْفٍ عادَلْناهُ بِصِنْفٍ (p-١٣)آخَرَ جَعَلْناهُ تَمامَ نَفْعِهِ بِهِ ﴿بَهِيجٍ﴾ أيْ مُؤْنِقٍ مِن أشْتاتِ النَّباتاتِ في اخْتِلافِ ألْوانِها وطَعُومِها، ورَوائِحِها وأشْكالِها، ومَنافِعِها ومَقادِيرِها رائِقَةُ المَناظِرِ، لائِقَةُ في العُيُونِ والبَصائِرِ، قالَ الرّازِي: فَكَما أنَّ النَّباتَ يَتَوَجَّهُ مِن نَقْصٍ إلى كَمالٍ، فَكَذَلِكَ الآدَمِيُّ يَتَرَقّى مِن نَقْصٍ إلى كَمالٍ، فَفي المَعادِ يَصِلُ إلى كَمالِهِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ مِنَ البَقاءِ والغِنى والعِلْمِ والصَّفاءِ والخُلُودِ، أيِ السَّعِيدُ مِنهُ في دارِ السَّلامِ مُبَرَّأٌ عَنْ عَوارِضِ هَذا العالَمِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب