الباحث القرآني

ولَمّا كانَ جَمِيعُ ما تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ دالًّا عَلى أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنَّهُ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ، وخَتَمَ ذَلِكَ بِأنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَمْ يَغِبْ ولا يَغِيبُ شَيْءٌ عَنْهُ، فاقْتَضى ذَلِكَ قَيُّومِيَّتَهُ، وكانَ بِحَيْثُ يُسْتَعْظَمُ لِكَثْرَةِ الخَلائِقِ فَكَيْفَ بِأحْوالِهِمْ، قَرَّرَ ذَلِكَ في جَوابِ مَن كَأنَّهُ سَألَ فَهي في مَعْنى العِلَّةِ، فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الحائِزَ لِجَمِيعِ الكَمالِ المُبَرَّأ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ ﴿يَسْجُدُ لَهُ﴾ أيْ يَخْضَعُ مُنْقادًا لِأمْرِهِ مُسَخِّرًا لِما يُرِيدُ مِنهُ تَسْخِيرَ مَن هو في غايَةِ الِاجْتِهادِ في العِبادَةِ والإخْلاصِ فِيها ﴿مَن في السَّماواتِ﴾ ولَمّا كانَ في السِّياقِ مُقْتَضِيًا لِلْإبْلاغِ في صِفَةِ القَيُّومِيَّةِ بِشَهادَةٍ ذَكَرَ الفَصْلَ بَيْنَ جَمِيعِ الفِرَقِ، أكَّدَ بِإعادَةِ المَوْصُولِ فَقالَ: ﴿ومَن في الأرْضِ﴾ إنْ أخْلَتْ غَيْرَ العاقِلِ فَبِالتَّغْلِيبِ، وإنْ خَصَّصَتْ فَبِالعاقِلِ أفْهَمَ خُضُوعَ غَيْرِهِ مِن بابِ الأوْلى. ولَمّا ذَكَرَ ما يَعُمُّ العاقِلَ وغَيْرَهُ، أتْبَعَهُ بِأشْرَفِ (p-٢٦)ما ذَكَرَ مِمّا لا يَعْقِلُ لِأنَّ كُلّا مِنهُما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ أوْ عُبِدَ شَيْءٌ مِنهُ فَقالَ: ﴿والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ﴾ مِنَ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ فَعَبَدَ الشَّمْسَ حِمْيَرٌ، والقَمَرَ كِنانَةُ، والدَّبَرانِ تَمِيمٌ، والشِّعْرى لَخْمٌ، والثُّرَيّا طَيِّئٌ وعُطارِدًا أسْدٌ، والمُرْزِمَ رَبِيعَةُ - قالَهُ أبُو حَيّانَ. ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ أعْلامَ الذَّواتِ السُّفْلِيَّةِ فَقالَ: ﴿والجِبالُ﴾ أيِ الَّتِي تُنْحَتُ مِنها الأصْنامُ ﴿والشَّجَرُ﴾ الَّتِي عُبِدَ بَعْضُها ﴿والدَّوابُّ﴾ الَّتِي عُبِدَ مِنها البَقَرُ، كُلُّ هَذِهِ الأشْياءِ تَنْقادُ لِأمْرِ اللَّهِ، ومِنَ المَعْلُومِ لِكَوْنِ هَذِهِ لا تَعْقِلُ - أنَّ أمْرَهُ لَها هو مُرادُهُ مِنها. ولَمّا كانَ العُقَلاءُ مِنَ المُكَلَّفِينَ قَدْ دَخَلُوا في قَوْلِهِ ﴿ومَن في الأرْضِ﴾ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وكانَ السُّجُودُ المَمْدُوحُونَ عَلَيْهِ إنَّما هو المُوافِقُ لِلْأمْرِ، لا المُوافِقُ لِلْإرادَةِ المُجَرَّدَةِ عَنِ الأمْرِ، قالَ دالًّا عَلى إرادَتِهِ هُنا بِتَكْرِيرِهِمْ وتَقْسِيمِهِمْ بَعْدَ إدْخالِهِمْ في سُجُودِ الإرادَةِ وتَعْمِيمِهِمْ: ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ أيْ يَسْجُدُ سُجُودًا هو مِنهُ عِبادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَحَقَّ لَهُ الثَّوابُ ﴿وكَثِيرٌ﴾ أيْ مِنهم ﴿حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ بِقِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَسْجُدْ، فَجَحَدَ الأمْرَ الَّذِي مَن جَحَدَهُ كانَ كافِرًا وإنْ كانَ ساجِدًا عابِدًا بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ الَّذِي هو الجَرْيُ مَعَ المُرادِ، وعَلى القَوْلِ بِأنَّ (p-٢٧)هَذا في تَقْدِيرِ عامِلٍ مِن لَفْظِ الأوَّلِ بِغَيْرِ مَعْناهُ هو قَرِيبٌ مِنَ الِاسْتِخْدامِ الَّذِي يَعْلُو فِيهِ ضَمِيرٌ عَلى لَفْظٍ مُرادٍ مِنهُ مَعْنًى آخَرُ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: إثْباتُ السُّجُودِ في الأوَّلِ دَلِيلٌ عَلى انْتِفائِهِ في الثّانِي، وذِكْرُ العَذابِ في الثّانِي دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ الثَّوابِ في الأوَّلِ. ولَمّا عُلِمَ بِهَذا أنَّ الكُلَّ جارُونَ مَعَ الإرادَةِ مُنْقادُونَ أتَمَّ انْقِيادٍ تَحْتَ طَوْعِ المَشِيئَةِ، وأنَّهُ إنَّما جَعَلَ الأمْرَ والنَّهْيَ لِلْمُكَلَّفِينَ سَبَبًا لِإسْعادِ السَّعِيدِ مِنهم وإشْقاءِ الشَّقِيِّ، لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ عَلى ما يَتَعارَفُونَهُ مِن أحْوالِهِمْ فِيما بَيْنَهُمْ، كانَ المَعْنى: فَمَن يُكْرِمِ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ لِامْتِثالِ أمْرِهِ فَما لَهُ مِن مُهِينٍ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ:﴿ومَن يُهِنِ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ بِمُنابَذَةِ أمْرِهِ ﴿فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ﴾ لِأنَّهُ لا قُدْرَةَ لِغَيْرِهِ أصْلًا، ولَعَلَّهُ إنَّما ذَكَرَهُ وطَوى الأوَّلَ لِأنَّ السِّياقَ لِإظْهارِ القُدْرَةِ، وإظْهارُها في الإهانَةِ أتَمُّ، مَعَ أنَّ أصْلَ السِّياقِ لِلتَّهْدِيدِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ أنَّ الفِعْلَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْظَمَ ﴿يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ أيْ كُلَّهُ، فَلَوْ جازَ أنْ يُمانِعَهُ غَيْرُهُ ولَوْ في لَحْظَةٍ لَمْ يَكُنْ فاعِلًا لِما يَشاءُ، فَصَحَّ أنَّهُ لا فِعْلَ لِغَيْرِهِ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ شَيْبانَ الرَّمْلِيُّ عَنِ القَدّاحِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (p-٢٨)أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ هَهُنا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ في المَشِيئَةِ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: يا عَبْدَ اللَّهِ خَلَقَكَ اللَّهُ كَما شاءَ أوْ كَما شِئْتَ؟ قالَ: بَلْ كَما شاءَ، قالَ: فَيُمْرِضُكَ إذا شاءَ أوْ إذا شِئْتَ؟ قالَ: بَلْ إذا شاءَ، قالَ: فَيَشْفِيكَ إذا شاءَ أوْ إذا شِئْتَ؟ قالَ: بَلْ إذا شاءَ، قالَ: فَيُدْخِلُكَ حَيْثُ شِئْتَ أوْ حَيْثُ يَشاءُ؟ قالَ: بَلْ حَيْثُ يَشاءُ، قالَ: واللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْناكَ بِالسَّيْفِ، وقَدْ مَرَّ في سُورَةِ يُوسُفَ عِنْدَ ﴿إنِ الحُكْمُ إلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يوسف: ٦٧] ما يَنْفَعُ هُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب