الباحث القرآني

ولَمّا كانَ اللّازِمُ مِن هَذِهِ الآياتِ تَجْوِيزَ أُمُورٍ تَهُمُّ سامِعَها وتُقْلِقُهُ لِلْعِلْمِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ مِن عَدْلٍ وفَضْلٍ، وكانَ مِنَ العَدْلِ جَوازُ تَعْذِيبِ الطّائِعِ وتَنْعِيمِ العاصِي، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما قالَ (p-٥١٤)الرَّسُولُ الشَّفُوقُ عَلى الأُمَّةِ حِينَ سَمِعَ هَذا الخِطابَ؟ فَقِيلَ: قالَ مُبْتَهِلًا إلى اللَّهِ تَعالى - هَذا عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ. وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: لَمّا عَلِمَ سُبْحانَهُ أنَّ ذَلِكَ مُقْلِقٌ، أمَرَهُ ﷺ بِما يُرَجِّي مَن يَقْلَقُ مِن أتْباعِهِ فَقالَ: ﴿قالَ رَبِّ﴾ أيْ [أيُّها -] المُحْسِنُ إلَيَّ في نَفْسِي واتِّباعِي بِامْتِثالِ أوامِرِكَ واجْتِنابِ نَواهِيكَ ﴿احْكُمْ﴾ أيْ أنْجِزِ الحُكْمَ بَيْنِي وبَيْنَ هَؤُلاءِ المُخالِفِينَ ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ بِالأمْرِ الَّذِي يَحِقُّ لِكُلٍّ مِنّا مِن نَصْرٍ وخِذْلانٍ عَلى ما أجْرَيْتَهُ مِن سُنَّتِكَ القَدِيمَةِ في أوْلِيائِكَ وأعْدائِكَ ﴿ما نُنَـزِّلُ المَلائِكَةَ إلا بِالحَقِّ﴾ [الحجر: ٨] أيِ الأمْرِ الفَصْلِ النّاجِزِ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وعَنْ مالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا شَهِدَ قِتالًا قالَ ﴿رَبِّ احْكم بِالحَقِّ﴾» [وفِي الآيَةِ أعْظَمُ حَثٍّ عَلى لُزُومِ الإنْسانِ بِالحَقِّ لِيَتَأهَّلَ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ -]. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَرَبُّنا المُنْتَقِمُ الجَبّارُ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ وهو قادِرٌ عَلى ما تُوعَدُونَ، عَطَفَ عَلَيْهِ [قَوْلَهُ -]: ﴿ورَبُّنا﴾ أيِ (p-٥١٥)المُحْسِنُ إلَيْنا أجْمَعِينَ؛ ثُمَّ وصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ أيِ العامُّ الرَّحْمَةِ لَنا ولَكم بِإدْرارِ النِّعَمِ عَلَيْنا، ولَوْلا عُمُومُ رَحْمَتِهِ لَأهْلَكَنا أجْمَعِينَ وإنْ كُنّا نَحْنُ أطَعْناهُ، لِأنّا لا نَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥] والحاصِلُ أنَّهُ لَمّا سَألَ ”الحَقَّ“ المُرادَ بِهِ الهَلاكُ لِلْعَدُوِّ والنَّجاةُ لِلْوَلِيِّ، أفْرَدَ الإضافَةَ إشارَةً إلى تَخْصِيصِهِ بِالفَضْلِ، وإفْرادِهِمْ بِالعَدْلِ، ولَمّا سَألَ العَوْنَ عَمَّ بِالإضافَةِ والصِّفَةِ قُنُوعًا بِتَرْجِيحِ جانِبِهِ بِالعَوْنِ وإنْ شَمِلَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، [ولِأنَّ مَن رَحِمْتَهم خَلَّيْتَهم عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ -] فَقالَ: ﴿المُسْتَعانُ﴾ أيِ المَطْلُوبُ مِنهُ العَوْنُ وهو خَبَرُ المُبْتَدَإ المَوْصُوفِ ﴿عَلى ما تَصِفُونَ﴾ مِمّا هو ناشِئٌ عَنْ غَفْلَتِكُمُ النّاشِئَةِ عَنْ إعْراضِكم عَنْ هَذا الذِّكْرِ مِنَ الاسْتِهْزاءِ والقَذْفِ بِالسِّحْرِ وغَيْرِهِ، والمُناصَبَةِ بِالعَداوَةِ والتَّوَعُّدِ بِكُلِّ شَرٍّ، فَقَدِ انْطَبَقَ آخِرُ السُّورَةِ عَلى أوَّلِها بِذِكْرِ السّاعَةِ رَدًّا عَلى قَوْلِهِ ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] وذِكْرِ غَفْلَتِهِمْ وإعْراضِهِمْ وذِكْرِ القُرْآنِ الَّذِي هو البَلاغُ، وذِكْرِ الرِّسالَةِ بِالرَّحْمَةِ لِمَن نَسَبُوهُ إلى السِّحْرِ وغَيْرِهِ، وتَفْصِيلِ ما اسْتَعْجَلُوا بِهِ مِن آياتِ الأوَّلِينَ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقامَ الدَّلِيلُ بِالسَّمْعِ بَعْدَ العَقْلِ عَلى تَحَقُّقِ أمْرِ السّاعَةِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يَمْنَعُهُ مِن ذَلِكَ، وأنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفى، وهو رَحْمَنٌ، فَمِن رَحْمَتِهِ إيجادُ يَوْمِ الدِّينِ لِيُجازِيَ فِيهِ المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ، (p-٥١٦)والمُسِيءَ بِكُفْرانِهِ، وفي ذَلِكَ أعْظَمُ تَرْهِيبٍ في أعْلى حاثٍّ عَلى التَّقْوى لِلنَّجاةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وهو أوَّلُ الَّتِي تَلِيها - واللَّهُ المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب