الباحث القرآني

ولَمّا أتْبَعَ ذَلِكَ قِصَّةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُصَدَّرَةً بِاسْتِفْهامٍ مُقْتَرِنٍ بِواوِ عَطْفٍ، وأرْشَدَ ذَلِكَ إلى أنَّ المَعْنى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، أيْ مُتَّصِفًا بِأوْصافِهِ أوْ بِشَيْءٍ مِنها لَهُ بِذَلِكَ الوَصْفِ مِثْلُ فِعْلِهِ، ولَمّا كانَ الجَوابُ قَطْعًا: لا، ثَبَتَ أنْ لا مُتَّصِفَ بِشَيْءٍ مِن أوْصافِهِ، فَعَطَفَ عَلى هَذا المُقَدَّرِ قِصَّةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَلْ عَلِمْتَ بِما ذَكَّرْناكَ بِهِ في هَذِهِ الآياتِ أنّا نُرِيدُ ما هو عَلَيْنا يَسِيرٌ بِما لَنا مِنَ القُدْرَةِ التّامَّةِ والعِلْمِ الشّامِلِ مِن إسْعادِكَ في الدّارَيْنِ بِتَكْثِيرِ أجْرِكَ، وتَفْخِيمِ أمْرِكَ، بِتَكْثِيرِ (p-٢٧١)أتْباعِكَ، وعَطَفَ عَلَيْهِ القِصَّةَ شاهِدًا مَحْسُوسًا عَلى ما لَهُ مِنَ الاتِّصافِ بِما انْتَفى عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى، ولاسِيَّما ما ذَكَرَ هُنا مِنَ الاتِّصافِ بِتَمامِ القُدْرَةِ والتَّفَرُّدِ بِالعَظَمَةِ، وأنَّهُ يُعْلِي هَذا المُصْطَفى بِإنْزالِ هَذا الذِّكْرِ عَلَيْهِ وإيصالِهِ مِنهُ إلَيْهِ النُّصْرَةَ عَلى المُلُوكِ وسائِرِ الأضْدادِ، والتَّمْكِينِ في أقْطارِ البِلادِ، وكَثْرَةِ الأتْباعِ، وإعْزازِ الأنْصارِ والوُزَراءِ والأشْياعِ، وغَيْرِ ذَلِكَ بِمِقْدارِ ما بَيْنَ ابْتِداءِ أمْرِهِما مِنَ التَّفاوُتِ، فَإنَّ ابْتِداءَ أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ أتى النّارَ لِيَقْبِسَ أهْلُهُ مِنها نارًا أوْ يَجِدَ عِنْدَها هُدىً. فَمَنَحَ بِذَلِكَ مِن هُدى الدّارَيْنِ والنُّصْرَةِ عَلى الأعْداءِ كَما سَيَقُصُّ هُنا ما مَنَحَ، وهَذا النَّبِيُّ الكَرِيمُ كانَ ابْتِداءُ أمْرِهِ أنَّهُ يَذْهَبُ إلى غارِ حِراءٍ فَيَتَعَبَّدُ اللَّيالِيَ ذَواتَ العَدَدِ، ويَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ اجْتِذابًا مِنَ الحَقِّ لَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِمَدَدٍ، تَدْرِيبًا لَهُ وتَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ، فَأتَتْهُ النُّبُوَّةُ وهو في مِضْمارِها سائِرٌ، وإلى أوْجِها بِعَزْمِهِ صائِرٌ بَلْ طائِرٌ، ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى حِينَ أتَتْهُ النُّبُوَّةُ آيَةَ العَصا واليَدِ، ومُحَمَّدٌ ﷺ كانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لا يَمُرُّ بِحَجَرٍ ولا شَجَرٍ إلّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، كَما أسْنَدَهُ ابْنُ إسْحاقَ في السِّيرَةِ. ورَوى مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ عَنْ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ (p-٢٧٢)ﷺ قالَ: «إنِّي لَأعْرِفُ حَجَرًا كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ» فَقالَ تَعالى مُقَرِّرًا تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ يَذْكُرُ لَهُ مِنهُ ما يَكْفِي في تَسْلِيَتِهِ وتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ، وتَبْكِيتِ اليَهُودِ الَّذِينَ تَوَقَّفُوا في أمْرِهِ ﷺ وغَشُّوا قُرَيْشًا حِينَ تَكَلَّفُوا طَيَّ شُقَّةِ البَيْنِ إلَيْهِمْ ورَضُوا بِقَوْلِهِمْ لَهم [و-] عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ فائِدَةُ الِاسْتِفْهامِ أنْ يُفْرِغَ أُذُنَهُ الشَّرِيفَةَ لِلسَّماعِ وقَلْبَهُ لِلْوَعْيِ العَظِيمِ: ﴿وهَلْ أتاكَ﴾ أيْ يا أشْرَفَ الخَلْقِ! ﴿حَدِيثُ مُوسى﴾ نادِبًا إلى التَّأسِّي بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في تَحَمُّلِ أعْباءِ النُّبُوَّةِ وتَكْلِيفِ الرِّسالَةِ والصَّبْرِ عَلى مَقاماتِ الشَّدائِدِ، وشارِحًا بِذِكْرِ ما في هَذِهِ السُّورَةِ مِن سِياقِ قِصَّةِ ما أجْمَلَ مِنها في [سُورَةِ مَرْيَمَ]، ومُقَرِّرًا بِما نَظَمَهُ في أسالِيبِها ما تَقَدَّمَ أنَّهُ مَقْصِدُ السُّورَةِ مِن أنَّهُ يُسْعِدُهُ ولا يُشْقِيهِ، ويُعِزُّهُ عَلى جَمِيعِ شانِئِيهِ بِإعْزازِهِ عَلى أهْلِ بَلَدِهِ بَعْدَ إخْراجِهِمْ لَهُ، كَما أعَزَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى مَن خَرَجَ مِن بِلادِهِمْ خائِفًا يَتَرَقَّبُ، تَرْغِيبًا في الهِجْرَةِ ثالِثًا بَعْدَ ما رَغَّبَ فِيها أوَّلًا بِقِصَّةِ أصْحابِ [الكَهْفِ] [و -] ثانِيًا بِقِصَّةِ [أبِيهِ -] إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّهُ يُعْلِي قَوْمَهُ عَلى جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ، ويُنْقِذُهم بِهِ بَعْدَ ضَعْفِهِمْ مِن كُلِّ شِدَّةٍ ويُغْنِي فَقْرَهم ويَجْعَلُهم مُلُوكَ الأرْضِ، يُذِلُّ بِهِمُ الجَبابِرَةَ، ويُهْلِكُ مَن عَلِمَ شَقاوَتَهُ مِنهم كَما فَعَلَ [بِقَوْمِ -] مُوسى، وأشارَ بِإنْجاءِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى (p-٢٧٣)يَدِ عَدُوِّهِ وإلْقائِهِ المَحَبَّةَ عَلَيْهِ وهِدايَةِ السَّحَرَةِ دُونَ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، وعِبادَةِ بَنِي إسْرائِيلَ العِجْلَ بَعْدَ ما رَأوْا مِنَ الآياتِ والنِّعَمِ والنِّقَمِ، ثُمَّ رُجُوعِهِمْ عَنْها إلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلى التَّصَرُّفِ في القُلُوبِ لِمَن كانَ يَبْخَعُ نَفْسَهُ لِكُفْرِهِمْ بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا، وكَذا ما في قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥] وقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ [طه: ١٢٢] ولَعَلَّهُ أشارَ بِقَوْلِهِ ﴿واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ [طه: ٢٧] إلى ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِن تَيْسِيرِ هَذا الذِّكْرِ بِلِسانِهِ، وأرْشَدَ بِدُعاءِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ وتَيْسِيرِ الأمْرِ وطَلَبِ وزِيرٍ مِن أهْلِهِ إلى الدُّعاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتّى دَعا المُنَزَّلُ عَلَيْهِ هَذا القُرْآنُ بِأنْ يُؤَيِّدَ اللَّهُ الدِّينَ بِأحَدِ الرَّجُلَيْنِ، فَأيَّدَهُ بِأعْظَمِ وزِيرٍ: عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَما مَضى هَذا إلى تَمامِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ سِياقُ قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هُنا، إتْمامًا لِتَبْكِيتِ اليَهُودِ عَلى تَعْلِيمِهِمْ قُرَيْشًا أنْ يَسْألُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الرُّوحِ، وما ذَكَرَ مَعَها مِن دَقائِقَ، مِن أمْرِ قِصَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، لا يَعْلَمُها أحَدٌ مِنهم أوْ إلّا حُذّاقُهُمْ، مِنها أنَّ المَوْعِدَ كانَ يَوْمَ الزِّينَةِ، ومِنها إيمانُ السَّحَرَةِ إيمانًا كامِلًا، ومِنها التَّهْدِيدُ بِتَصْلِيبِهِمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ، ومِنها إلْقاءُ السّامِرِيِّ لِأثَرِ الرَّسُولِ، فَإنِّي لَمْ أرَ أحَدًا مِنَ اليَهُودِ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وأخْبَرَنِي بَعْضُ فُضَلائِهِمْ أنَّهُ لا ذِكْرَ لِذَلِكَ عِنْدَهم. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ في بُرْهانِهِ: لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ قِصَّةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وما مَنَحَهُ وأعْطاهُ، وقِصَصَ الأنْبِياءِ بَعْدَهُ بِما خَصَّهم بِهِ، (p-٢٧٤)وأعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ [مريم: ٥٨] وكانَ ظاهِرُ الكَلامِ تَخْصِيصَ هَؤُلاءِ بِهَذِهِ المَناصِبِ العَلِيَّةِ، والدَّرَجاتِ المَنفِيَّةِ الجَلِيلَةِ لا سِيَّما وقَدْ أتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩] كانَ هَذا مَظِنَّةَ إشْفاقٍ وخَوْفٍ فَأتْبَعَهُ تَعالى بِمُلاطَفَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُلاطَفَةَ المَحْبُوبِ المُقَرَّبِ [المُجْتَبى -] فَقالَ ﴿ما أنْـزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] وأيْضًا فَقَدْ خُتِمَتْ سُورَةُ مَرْيَمَ بِقَوْلِهِ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنهم مِن أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهم رِكْزًا﴾ [مريم: ٩٨] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿وتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧] وقَدْ رَأى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن تَأخُّرِ قُرَيْشٍ عَنِ الإسْلامِ ولَدَدِها ما أوْجَبَ إشْفاقَهُ وخَوْفَهُ عَلَيْهِمْ. ولا شَكَّ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحْزِنُهُ تَأْخِيرُ إيمانِهِمْ، ولِذَلِكَ قِيلَ لَهُ ”ولًّا تُحْزِنُ عَلَيْهِمْ“ فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ظَنَّ أنَّهُ يُسْتَصْعَبُ المَقْصُودُ مِنَ اسْتِجابَتِهِمْ، أوْ يَنْقَطِعُ الرَّجاءُ مِن إنابَتِهِمْ فَيَطُولُ العَناءُ والمَشَقَّةُ، فَبَشَّرَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ما أنْـزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] فَلا عَلَيْكَ مِن لَدَدِ هَؤُلاءِ وتَوَقُّفِهِمْ، فَيَسْتَجِيبُ مَنِ انْطَوى عَلى الخَشْيَةِ إذا ذُكِّرَ وحُرِّكَ إلى النَّظَرِ في آياتِ اللَّهِ كَما قِيلَ [لَهُ -] في مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يس: ٧٦] ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ تَعْرِيفًا وتَأْنِيسًا بِقَوْلِهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] إلى أوَّلِ قِصَصِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ أنَّ الكُلَّ خَلْقُهُ ومِلْكُهُ، وتَحْتَ قَهْرِهِ وقَبْضَتِهِ لا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنْ مِلْكِهِ. (p-٢٧٥)فَإذا شاهَدَ آيَةَ مَن وفَّقَهُ لَمْ يَصْعُبْ أمْرُهُ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وما كانَ مِنهُ في إلْقائِهِ صَغِيرًا في اليَمِّ، وما جَرى بَعْدَ ذَلِكَ مِن عَجِيبِ الصُّنْعِ وهَلاكِ فِرْعَوْنَ وظُهُورِ بَنِي إسْرائِيلَ، وكُلُّ هَذا مِمّا يُؤَكِّدُ القَصْدَ المُتَقَدِّمَ، وهَذا الوَجْهُ الثّانِي أوْلى مِنَ الأوَّلِ - واللَّهُ أعْلَمُ، انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب