الباحث القرآني

ولَمّا افْتَتَحَ سُبْحانَهُ بِالَّذِينِ واطَأتْ قُلُوبُهم ألْسِنَتَهم في الإيمانِ وثَنّى بِالمُجاهِرِينَ مِنَ الكافِرِينَ الَّذِينَ طابَقَ إعْلانَهم إسْرارَهم في الكُفْرانِ أتْبَعَهُ ذِكْرَ المُساتِرِينَ الَّذِينَ خالَفَتْ ألْسِنَتُهم قُلُوبَهم في الإذْعانِ وهم المُنافِقُونَ، وأمْرُهم أشَدُّ لِإشْكالِ أحْوالِهِمْ والتِباسِ أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، فَأضَرُّ الأعْداءِ مَن يُرِيكَ الصَّداقَةَ فَيَأْخُذُكَ مِنَ المَأْمَنِ؛ وما أحْسَنَ ما يُنْسَبُ إلى الإمامِ أبِي سُلَيْمانَ الخَطّابِيِّ في المَعْنى: ؎تَحَرَّزْ مِنَ الجُهّالِ جَهْدَكَ إنَّهم وإنْ أظْهَرُوا فِيكَ المَوَدَّةَ أعْداءُ ؎وإنْ كانَ فِيهِمْ مَن يَسُرُّكَ فِعْلُهُ ∗∗∗ فَكُلُّ لَذِيذِ الطَّعْمِ أوْ جُلُّهُ داءُ لا جَرَمَ ثَنّى سُبْحانَهُ بِإظْهارِ أسْرارِهِمْ وهَتْكِ أسْتارِهِمْ في سِياقٍ شامِلٍ لِقِسْمَيْهِمْ، (p-١٠٠)فَقَبَّحَ أُمُورَهم ووَهّى مَقاصِدَهم وضَرَبَ لَهُمُ الأمْثالَ وبَسَطَ لَهم بَعْضَ البَسْطِ في المَقالِ، فَقالَ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ﴾ أيْ لَمّا أرْسَلْنا رَسُولَنا انْقَسَمَ النّاسُ قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، وانْقَسَمَ الكافِرُ قِسْمَيْنِ: فَمِنهم مَن جاهَرَ وقالَ: لا نُؤْمِنُ أبَدًا، ومِنهم مَن يَقُولُ، ولَعَلَّهُ أظْهَرَ، ولَمْ يُضْمِرْ؛ لِانْفِرادِهِمْ عَنِ المُجاهِرِينَ بِبَعْضِ الأحْكامِ، أوْ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ طَرَفَيِ الإيمانِ والكُفْرِ وأحْوالَ المُؤْمِنِينَ وأحْوالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ذَكَرَ المُنافِقِينَ المُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الِاتِّصافِ بِالطَّرَفَيْنِ بِلَفْظِ النّاسِ لِظُهُورِ مَعْنى النَّوْسِ فِيهِمْ لِاضْطِرابِهِمْ بَيْنَ الحالَيْنِ، لِأنَّ النَّوْسَ هو حَرَكَةُ الشَّيْءِ اللَّطِيفِ المُعَلَّقِ في الهَواءِ كالخَيْطِ المُعَلَّقِ الَّذِي لَيْسَ في طَرَفِهِ الأسْفَلِ ما يُثْقِلُهُ فَلا يَزالُ (p-١٠١)مُضْطَرِبًا بَيْنَ جِهَتَيْنِ، ولَمْ يَظْهَرْ هَذا المَعْنى في الفَرِيقَيْنِ لِتَحَيُّزِهِمْ إلى جِهَةٍ واحِدَةٍ. قالَهُ الحَرالِّيُّ، وعَرَّفَ لِلْجِنْسِ أوْ لِلْعَهْدِ في الَّذِينَ كَفَرُوا لِأنَّهم نَوْعٌ مِنهم، وسِرُّ الإظْهارِ مَوْضِعَ الإضْمارِ عَلى هَذا ما تَقَدَّمَ، ﴿آمَنّا بِاللَّهِ﴾ أيْ وحْدَهُ بِما لَهُ مِنَ الجَلالِ والجَمالِ مُسْتَحْضِرِينَ لِذَلِكَ، ولَمّا كانُوا مُتَّهَمِينَ أكَّدُوا بِإعادَةِ الجارِّ فَقالُوا: ﴿وبِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي جَحَدَهُ المُجاهِرُونَ، ﴿وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ أيْ بِعَرِيقِينَ في الإيمانِ كَما ادَّعَوْهُ بِذِكْرِ الِاسْمِ الأعْظَمِ وإعادَةِ الجارِّ، ولَعَلَّهُ نَفى العَراقَةَ فَقَطْ لِأنَّ مِنهم مَن كانَ مُزَلْزَلًا حِينَ هَذا القَوْلِ غَيْرَ جازِمٍ بِالكُفْرِ وآمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الإيمانِ تَعْمِيمًا في السَّلْبِ عَنْهم لِما ذَكَرُوا وغَيْرِهِ، وجَمَعَ هُنا وأفْرَدَ في ”يَقُولُ“ تَنْبِيهًا عَلى عُمُومِ الكُفْرِ لَهم كالأوَّلِينَ، وقِلَّةُ (p-١٠٢)مَن يَسْمَحُ مِنهم بِهَذا القَوْلِ إشارَةً إلى غِلْظَتِهِمْ وشِدَّةِ عَثاوَتِهِمْ في الكُفْرِ وقُوَّتِهِمْ. وفِي ذِكْرِ قِصَّتِهِمْ وتَقْبِيحِ أحْوالِهِمْ تَنْبِيهٌ عَلى وُجُوبِ الإخْلاصِ، وحَثٌّ عَلى الِاجْتِهادِ في الطَّهارَةِ مِنَ الأدْناسِ في سُؤالِ الهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ. وتَصْنِيفُ النّاسِ آخِرَ الفاتِحَةِ ثَلاثَةَ أصْنافٍ: مُهْتَدِينَ، ومُعانِدِينَ، وضالِّينَ، مِثْلُ تَصْنِيفِهِمْ أوَّلَ البَقَرَةِ ثَلاثَةً: مُتَّقِينَ وكافِرِينَ مُصارِحِينَ وهُمُ المُعانِدُونَ وضالِّينَ وهُمُ المُنافِقُونَ، وإجْمالُهم في الفاتِحَةِ وتَفْصِيلُهم هُنا مِن بَدِيعِ الأسالِيبِ وهو دَأْبُ القُرْآنِ العَظِيمِ: الإجْمالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ. وقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحاقَ كَثِيرًا مِنَ المُنافِقِينَ في السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ في أوائِلِ أخْبارِ ما بَعْدَ الهِجْرَةِ، قالَ ابْنُ هِشامٍ في تَلْخِيصِ ذَلِكَ: وكانَ مِمَّنِ انْضافَ إلى يَهُودٍ مِمَّنْ سُمِّيَ لَنا مِنَ المُنافِقِينَ مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ؛ مِنَ الأوْسِ: زُوَيُّ بْنُ الحارِثِ، وبِجادُ بْنُ عُثْمانَ بْنِ عامِرٍ، ونَبْتَلُ بْنُ الحارِثِ وهو الَّذِي قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إلى الشَّيْطانِ؛ فَلْيَنْظُرْ إلى نَبْتَلٍ !»، وكانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ (p-١٠٣)عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَتَحَدَّثُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَنْقُلُ حَدِيثَهُ إلى المُنافِقِينَ، وهو الَّذِي قالَ: ( إنَّما مُحَمَّدٌ أُذُنٌ ) - . وعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أخُو سَهْلٍ، وعَمْرُو بْنُ خِذامٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وبَحْزَجٌ وهو مِمَّنْ كانَ بَنى مَسْجِدَ الضِّرارِ، وكَذا جارِيَةُ بْنُ عامِرِ بْنِ العَطّافِ، وابْنُهُ زَيْدٌ، وخِذامُ بْنُ خالِدٍ وهو الَّذِي أخْرَجَ مَسْجِدَ الضِّرارِ مِن دارِهِ، ومِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيٍّ وهو الَّذِي «قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو عامِدٌ إلى أُحُدٍ: ( لا أُحِلُّ لَكَ يا مُحَمَّدُ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا أنْ تَمُرَّ في حائِطَيْ ) ! فابْتَدَرَهُ المُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ، فَنَهاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وقالَ: هَذا الأعْمى أعْمى القَلْبِ أعْمى البَصَرِ»، وأخُوهُ أوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وهو الَّذِي قالَ يَوْمَ الخَنْدَقِ: ( إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) . وحاطِبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ رافِعٍ وكانَ شَيْخًا جَسِيمًا قَدْ عَسى في الجاهِلِيَّةِ وكانَ ابْنُهُ يَزِيدُ مِن خِيارِ المُسْلِمِينَ، قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقالَ أبُوهُ لِمَن بِشَّرَهُ بِالجَنَّةِ: غَرَرْتُمْ واللَّهِ هَذا المِسْكِينَ مِن نَفْسِهِ !، وبُشَيْرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ أبُو طُعَيْمَةَ - وفي نُسْخَةٍ: طُعْمَةَ، وهو سارِقُ الدِّرْعَيْنِ الَّذِي أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ (p-١٠٤)﴿ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٧] وقُزْمانُ حَلِيفٌ لَهم أجادَ يَوْمَ أُحُدٍ القِتالَ «وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إنَّهُ مِن أهْلِ النّارِ، فَجُرِحَ فَبُشِّرَ بِالجَنَّةِ، فَقالَ: واللَّهِ ما قاتَلْتُ إلّا حَمِيَّةً لِقَوْمِي ! فَلَمّا اشْتَدَّتْ بِهِ الجِراحَةُ قَطَعَ رَواهِشَ يَدِهِ، فَماتَ "» . ومِنَ الخَزْرَجِ: رافِعُ بْنُ ودِيعَةَ، وزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، والجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وهو الَّذِي قالَ: ﴿ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ المُنافِقِينَ وإلَيْهِ كانُوا يَجْتَمِعُونَ (p-١٠٥)وهُوَ القائِلُ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] وفِيهِ وفي ودِيعَةَ العَوْفِيِّ ومالِكِ بْنِ أبِي قَوْقَلٍ وسُوَيْدٍ وداعِسٍ - وهم مِن رَهْطِهِ - نَزَلَ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ [الحشر: ١١] الآيَةَ، حِكايَةً لِما كانُوا يَدُسُّونَهُ إلى بَنِي النَّضِيرِ إذْ حاصَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَدَقَ اللَّهُ وكَذَبُوا. وكانَ مِمَّنْ تَعَوَّذَ بِالإسْلامِ وأظْهَرَهُ وهو مُنافِقٌ مِن أحْبارِ يَهُودٍ مِن بَنِي قَيْنُقاعَ سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ وزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ وهو الَّذِي قالَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أنَّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السَّماءِ وهو لا يَدْرِي أيْنَ ناقَتُهُ ! فَأعْلَمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وبِمَكانِ النّاقَةِ، ونُعَيْمانُ بْنُ أوْفى بْنِ عَمْرٍو، وعُثْمانُ بْنُ أوْفى، ورافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وهو الَّذِي قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ ماتَ: «قَدْ ماتَ اليَوْمَ عَظِيمٌ مِن عُظَماءِ المُنافِقِينَ»، ورِفاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ وهو الَّذِي «قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذْ هَبَّتْ تِلْكَ الرِّيحُ وهو قافِلٌ مِن غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ: لا تَخافُوا، إنَّما هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِن عُظَماءِ المُنافِقِينَ»، وسِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهامَ، وكِنانَةُ بْنُ صُورِيا - فَكانَ هَؤُلاءِ مِنَ المُنافِقِينَ ومَن نَحا نَحْوَهم يَحْضُرُونَ المَسْجِدَ فَيَسْمَعُونَ أحادِيثَ المُسْلِمِينَ ويَسْخَرُونَ مِنهم ويَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِهِمْ. انْتَهى. وفِيهِ اخْتِصارٌ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ هَذِهِ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب