الباحث القرآني

ولَمّا كانَ حُصُولُ المَعْصِيَةِ مِنهم بَعْدَ رُؤْيَةِ هَذِهِ الخارِقَةِ مُسْتَبْعَدَ (p-٤٧٩)التَّصَوُّرِ فَضْلًا عَنِ الوُقُوعِ أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ مِنَ القَسْوَةِ وهي اشْتِدادُ التَّصَلُّبِ والتَّحَجُّرِ ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ ولَمّا كانَتْ لَهم حالاتٌ يُطِيعُونَ فِيها أتى بِالجارِّ فَقالَ ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أيْ مِن بَعْدِ ما تَقَدَّمَ وصْفُهُ مِنَ الخَوارِقِ في المُراجَعاتِ وغَيْرِها تَذْكِيرًا لَهم بِطُولِ إمْهالِهِ لَهم سُبْحانَهُ (p-٤٨٠)مَعَ تَوالِي كُفْرِهِمْ وعِنادِهِمْ، وتَحْذِيرًا مِن مِثْلِ ما أحَلَّ بِأهْلِ السَّبْتِ ﴿فَهِيَ﴾ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ قَسْوَتِها أنْ كانَتْ ﴿كالحِجارَةِ﴾ الَّتِي هي أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْ حالِها، فَإنَّ القَلْبَ أحْيى حَيٍّ والحَجَرَ أجْمَدُ جامِدٍ، ولَمْ يُشَبِّهْها بِالحَدِيدِ لِما فِيهِ مِنَ المَنافِعِ، ولِأنَّهُ قَدْ يَلِينُ. ولَمّا كانَتِ القُلُوبُ بِالنَّظَرِ إلى حَياتِها ألْيَنَ لَيِّنٍ وبِالنَّظَرِ إلى ثَباتِها عَلى حالَةٍ أصْلَبَ شَيْءٍ كانَتْ بِحَيْثُ تُحَيِّرُ النّاظِرَ في أمْرِها فَقالَ ﴿أوْ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: هي كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلى بَهْمِ الأمْرِ وخُفْيَتِهِ فَيَقَعُ الإبْهامُ والإيهامُ. انْتَهى. (p-٤٨١)وهَذا الإبْهامُ بِالنِّسْبَةِ إلى الرّائِينَ لَهم مِنَ الآدَمِيِّينَ، وأمّا اللَّهُ تَعالى فَهو العالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ خَلْقِهِ كَعِلْمِهِ بِهِ بَعْدَ خَلْقِهِ وزادَ ”أشَدَّ“ مَعَ صِحَّةِ بِناءِ أفْعَلَ مِن قَسى لِلدَّلالَةِ عَلى فَرْطِ القَسْوَةِ فَقالَ ﴿أشَدُّ قَسْوَةً﴾ لِأنَّها لا تَلِينُ لِما حَقُّهُ أنْ يُلِينَها والحَجَرُ يَلِينُ لِما حَقُّهُ أنْ يُلِينَهُ وكُلُّ وصْفٍ لِلْحَيِّ يُشابِهُ بِهِ ما دُونَهُ أقْبَحُ فِيهِ مِمّا دُونَهُ مِن حَيْثُ إنَّ الحَيَّ مُهَيَّأٌ لِضِدِّ تِلْكَ المُشابَهَةِ بِالإدْراكِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّ الحِجارَةَ تَنْفَعِلُ بِالمُزاوَلَةِ؛ عَطَفَ عَلَيْهِ - مُشِيرًا إلى مَزِيدِ قَسْوَتِهِمْ وجَلافَتِهِمْ بِالتَّأْكِيدِ - قَوْلَهُ: ﴿وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ﴾ وزادَ في التَّأْكِيدِ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿لَما يَتَفَجَّرُ﴾ أيْ يَتَفَتَّحُ بِالسِّعَةِ (p-٤٨٢)والكَثْرَةِ ﴿مِنهُ الأنْهارُ﴾ ذَكَرَ الكَثِيرَ مِن ذَلِكَ وتَذْكِيرًا بِالحَجْرِ المُتَفَجِّرِ لَهم مِنهُ الأنْهارُ بِضَرْبِ العَصا ثُمَّ عَطَفَ عَلى ذَلِكَ ما هو دُونَهُ فَقالَ: ﴿وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ﴾ أيْ يَسِيرًا بِتَكَلُّفٍ بِما يُشِيرُ إلَيْهِ الإدْغامُ والتَّفَعُّلُ مِنَ التَّشَقُّقِ وهو تَفَعُّلُ صِيغَةِ التَّكَلُّفِ مِنَ الشَّقِّ وهو مَصِيرُ الشَّيْءِ في الشَّقَّيْنِ أيْ ناحِيَتَيْنِ مُتَقابِلَتَيْنِ - قالَهُ الحَرالِّيُّ. ﴿فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ﴾ الَّذِي هو دُونَ النَّهْرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلى هَذا ما هو أنْزَلُ مِن ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أيْ يَنْتَقِلُ مِن مَكانِهِ مِن أعْلى الجَبَلِ إلى أسْفَلِهِ لِأمْرِ المَلِكِ الأعْلى لَهُ بِذَلِكَ وقُلُوبُكم لا تَنْقادُ لِشَيْءٍ مِنَ الأوامِرِ فَجَعَلَ الأمْرَ في حَقِّ القُلُوبِ لِما فِيها مِنَ العَقْلِ كالإرادَةِ في حَقِّ الحِجارَةِ لِما لَها مِنَ الجَمادِيَّةِ وفي ذَلِكَ تَذْكِيرٌ لَهم بِالحِجارَةِ المُتَهافِتَةِ مِنَ الطُّورِ (p-٤٨٣)عِنْدَ تَجَلِّي الرَّبِّ. قالَ الحَرالِّيُّ: والخَشْيَةُ وجَلُ نَفْسِ العالِمِ مِمّا يَسْتَعْظِمُهُ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَما أعْمالُكم - أوْ: فَما أعْمالُهم، عَلى قِراءَةِ الغَيْبِ - مِمّا يُرْضِي اللَّهَ ؟ عَطَفَ عَلَيْهِ ﴿وما﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن قُلُوبِكم أيْ قَسَتْ والحالُ أنَّهُ ما ﴿اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ ﴿بِغافِلٍ﴾ والغَفْلَةُ فَقْدُ الشُّعُورِ بِما حَقُّهُ أنْ يُشْعَرَ بِهِ ﴿عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ فانْتَظِرُوا عَذابًا مِثْلَ عَذابِ أصْحابِ السَّبْتِ إمّا في الدُّنْيا وإمّا في الآخِرَةِ، ولَمْ أرَ ذِكْرَ قِصَّةِ البَقَرَةِ في التَّوْراةِ فَلَعَلَّهُ مِمّا أخْفَوْهُ لِبَعْضِ نَجاساتِهِمْ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ (p-٤٨٤)بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١] والَّذِي رَأيْتُ فِيها مِمّا يُشْبِهُ ذَلِكَ ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْهُ أنَّهُ قالَ في السِّفْرِ الخامِسِ مِنها ما نَصُّهُ: فَإذا وجَدْتُمْ قَتِيلًا في الأرْضِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ اللَّهُ رَبُّكم مَطْرُوحًا لا يُعْرَفُ قاتِلُهُ، يَخْرُجُ أشْياخُكم وقُضاتُكم ويَذْرَعُونَ ما بَيْنَ القَتِيلِ والقَرْيَةِ، فَأيَّةُ قَرْيَةٍ كانَتْ قَرِيبَةً مِنَ القَتِيلِ يَأْخُذْ أشْياخُ تِلْكَ القَرْيَةِ عِجْلًا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ عَمَلٌ ولَمْ يُحْرَثْ بِهِ حَرْثٌ، فَيُنْزِلْ أشْياخُ تِلْكَ القَرْيَةِ العِجْلَ إلى الوادِي الَّذِي لَمْ يُزْرَعْ ولَمْ يُحْرَثْ فِيهِ حَرْثٌ يَذْبَحُونَ العِجْلَ في ذَلِكَ الوادِي ويَتَقَدَّمُ الأحْبارَ بَنُو لاوى الَّذِينَ اخْتارَهُمُ اللَّهُ رَبُّكم أنْ يَخْدِمُوا ويُبارِكُوا اسْمَ الرَّبِّ وعَنْ قَوْلِهِمْ يَقْضِي كُلَّ قَضاءٍ ويَضْرِبُ كُلَّ مَضْرُوبٍ، وجَمِيعُ أشْياخِ تِلْكَ القَرْيَةِ القَرِيبَةِ مِنَ القَتِيلِ يَغْسِلُونَ أيْدِيَهم فَوْقَ العِجْلِ المَذْبُوحِ في الوادِي ويَحْلِفُونَ ويَقُولُونَ: ما سَفَكَتْ أيْدِينا هَذا الدَّمَ وما رَأيْنا مَن قَتَلَهُ فاغْفِرْ يا رَبُّ لِآلِ إسْرائِيلَ شَعْبِكَ الَّذِينَ خَلَّصْتَ، ولا تُؤاخِذْ شَعْبَكَ بِالدَّمِ الزَّكِيِّ، ويَغْفِرُ لَهم عَلى الدَّمِ وأنْتُمْ فافْحَصُوا عَنِ الدَّمِ واقْضُوا بِالحَقِّ وأبْعِدُوا عَنْكُمُ الإثْمَ واعْمَلُوا الحَسَناتِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ رَبِّكم. انْتَهى. وهو كَما تَرى يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ فَرْعَ هَذا الأصْلِ المَذْكُورِ في القُرْآنِ العَظِيمِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب