الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لَمّا تَعَنَّتُوا عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما مَرَّ ويَأْتِي عَنْ نُصُوصِ التَّوْراةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أوْرَثَهم كُفْرًا في قُلُوبِهِمْ فَمَرَدُوا عَلى العِصْيانِ والتَّجَرُّؤِ عَلى مُجاوَزَةِ الحُدُودِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ والمَسْكَنَةَ وأحَلَّهُمُ الغَضَبَ، وكانَ في ذَلِكَ تَحْذِيرٌ لِمَن طَلَبَ سُلُوكَ ذَلِكَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ مِن حالِهِمْ، وإعْلامٌ بِأنَّ المُتَّقِينَ المُسْتَجابَ لَهم في الدُّعاءِ بِالهِدايَةِ لَيْسُوا في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ بَلْ قالُوا: اهْدِنا، عَنْ يَقِينٍ وإخْلاصٍ مُتَبَرِّئِينَ مِنَ الدَّعاوى والِاعْتِراضِ عَلى الرُّسُلِ نَبَّهْ عَلى أنَّ مَن عَمِلَ ضِدَّ عَمَلِهِمْ فَآمَنَ مِنهم أوْ مِن غَيْرِهِمْ مِن جَمِيعِ المِلَلِ كانَ عَلى ضِدِّ حالِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَلا يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ بَلْ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَهم ويُورِثُهُمُ الأمْنَ والسُّرُورَ المُتَضَمِّنَيْنِ لِضِدِّ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ (p-٤٥٤)فَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أوْ يُقالُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا عَلَّلَ إهانَةَ بَنِي إسْرائِيلَ بِعِصْيانِهِمْ واعْتِدائِهِمْ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما لِمَن أطاعَ ؟ فَأُجِيبَ بِجَوابٍ عامٍّ لَهم ولِغَيْرِهِمْ، أوْ يُقالُ إنَّهُ لَمّا أخْبَرَ تَعالى بِأنَّهم أُلْزِمُوا الخِزْيَ طَوْقَ الحَمامَةِ وكانَ ذَلِكَ رُبَّما أوْهَمَ أنَّهُ لا خَلاصَ لَهم مِنهُ وإنْ تابُوا وكانَتْ عادَتُهُ سُبْحانَهُ جارِيَةً بِأنَّهُ إذا ذَكَرَ وعْدًا أوْ وعِيدًا عَقِبَهُ حَكَّمَ ضِدَّهِ لِيَكُونَ الكَلامُ تامًّا، اعْلَمُوا أنَّ بابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ والرَّبُّ كَرِيمٌ عَلى وجْهٍ عامٍّ. وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا أنْهى الحَقُّ (p-٤٥٥)تَعالى نَبَأ أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ نِهايَتُهُ مِمّا بَيْنَ أعْلى تَكْرِمَتِهِمْ بِالخِطابِ الأوَّلِ إلى أدْنى الغَضَبِ عَلَيْهِمْ بِهَذا النَّبَأِ الآخِرِ عَنْهم إعْراضًا في مُقابَلَةِ ذَلِكَ الإقْبالِ الأوَّلِ وكانُوا هم أوَّلَ أهْلِ كِتابٍ أشْعَرَ تَعالى بِهَذا الخَتْمِ أنَّ جَمِيعَ مَن بَعْدَهم يَكُونُ لَهم تَبَعًا لِنَحْوٍ مِمّا أصابَهم مِن جَمِيعِ أهْلِ المِلَلِ الأرْبَعَةِ. انْتَهى. فَقِيلَ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيِ ادَّعَوُا الإيمانَ بِما دَعا إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ ﴿والَّذِينَ هادُوا﴾ أيِ ادَّعَوُا أنَّهم عَلى دِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو مِنَ الهَوْدِ وهو رُجُوعٌ بِالباطِنِ (p-٤٥٦)وثَباتٌ فِيهِ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ لِأنَّهم يَتَهَوَّدُونَ أيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِراءَةِ التَّوْراةِ ويَقُولُونَ: إنَّ السَّماواتِ والأرْضَ تَحَرَّكَتا حِينَ آتى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ التَّوْراةَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿والنَّصارى﴾ المُدَّعِينَ أنَّهم تَبِعُوا المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ الحَرالِّيُّ: جَمْعُ نَصْرانَ فَإنْ كانَ مِنَ النُّصْرَةِ فَهو فَعْلانٌ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ في اسْتِعْطافِ بَنِي إسْرائِيلَ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا قَرَنَ هُنا بَيْنَ فَرِيقَيْهِمْ، ولَمّا كانَتْ مِلَّةُ الصّابِئَةِ جامِعَةً لِما تَفَرَّقَ مِن أُصُولِ أدْيانِ أهْلِ الشِّرْكِ تَلاهم بِهِمْ مُرِيدًا كُلَّ مُشْرِكٍ فَقالَ ﴿والصّابِئِينَ﴾ المُنْكِرِينَ لِلرِّسالَةِ في الصُّورَةِ البَشَرِيَّةِ القائِلِينَ بِالأوْثانِ السَّماوِيَّةِ والأصْنامِ (p-٤٥٧)الأرْضِيَّةِ مُتَوَسِّطِينَ إلى رَبِّ الأرْبابِ، قالَ الحَرالِّيُّ: بِالهَمْزِ مَن صَبَأ يَصْبَأُ صَبْأً وبِغَيْرِ هَمْزٍ مِن صَبا يَصْبُو صَبْوًا، تَعاقَبَتِ الهَمْزَةُ والياءُ مَعَ الصّادِ والباءِ لِعامِّ مَعْنًى هو عَوْدٌ إلى حالِ صِغَرٍ بَعْدَ كِبَرٍ. انْتَهى. ﴿مَن آمَنَ﴾ أيْ مِنهم بِدَوامِهِ عَلى الإيمانِ إنْ كانَ آمَنَ قَبْلَ ذَلِكَ، ودُخُولُهُ في الإيمانِ إنْ كانَ كافِرًا فَيَكُونُ مِنَ الِاسْتِعْمالِ في الحَقِيقَةِ والمَجازِ ﴿بِاللَّهِ﴾ أيْ لِذاتِهِ ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي الإيمانُ بِهِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإيمانِ بِجَمِيعِ الصِّفاتِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ وغَيْرِهِما وحاثٌّ عَلى كُلِّ خَيْرٍ وصادٌّ عَنْ كُلِّ ضَيْرٍ ﴿وعَمِلَ صالِحًا﴾ أيْ وصَدَقَ ما ادَّعاهُ مِنَ الإيمانِ بِاتِّباعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِي في زَمانِهِ في الأعْمالِ الظّاهِرَةِ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ ولا أخَلَّ بِشَيْءٍ مِنِ اعْتِقادِ ما جاءَتْ بِهِ الكُتُبُ مِنَ الصَّلاحِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو العَمَلُ المُراعى مِنَ الخَلَلِ، وأصْلُهُ الإخْلاصُ في النِّيَّةِ وبُلُوغُ الوُسْعِ في المُحاوَلَةِ بِحَسَبِ عِلْمِ العامِلِ وإحْكامِهِ، وقالَ: والعَمَلُ ما دُبِّرَ بِالعِلْمِ - انْتَهى. (p-٤٥٨)ولَمّا كانَ الإفْرادُ أدَلَّ عَلى تَخْصِيصِ كُلِّ واحِدٍ بِما لَهُ والجَمْعُ أدُلَّ عَلى إرادَةِ العُمُومِ وأقْطَعَ لِلتَّعَنُّتِ؛ أفْرَدَ أوَّلًا وجَمَعَ هُنا فَقالَ ﴿فَلَهم أجْرُهُمْ﴾ الَّذِي وُعِدُوهُ عَلى تِلْكَ الأعْمالِ المَشْرُوطَةِ بِالإيمانِ، وهو في الأصْلِ جَعْلُ العامِلِ عَلى عَمَلِهِ، كائِنًا ”عِنْدَ رَبِّهِمْ“ فَهو مَحْفُوظٌ لا يُخْشى عَلَيْهِ نِسْيانٌ ولا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ تَلَفٌ ﴿ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ مِن آتٍ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِمْ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ ﴿ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ عَلى شَيْءٍ فاتَ بَلْ هم في أعْظَمِ السُّرُورِ بِما لَهم مِنَ العِزِّ والجِدَّةِ ضِدَّ ما لِلْمُعْتَدِينَ مِنَ الذُّلِّ والمَسْكَنَةِ، وحَسُنَ وضْعُ هَذِهِ الآيَةِ في أثْناءِ قِصَصِهِمْ أنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ بِقَتْلِ كُلِّ ذَكَرٍ مِمَّنْ عَداهم، ورُبَّما أُمِرُوا بِقَتْلِ النِّساءِ أيْضًا، فَرُبَّما ظَنَّ مِن ذَلِكَ أنَّ مَن آمَنَ مِن غَيْرِهِمْ لا يُقْبَلُ. قالَ في التَّوْراةِ في قِصَّةِ (p-٤٥٩)مَدْيَنَ: وقَتَلُوا كُلَّ ذَكَرٍ فِيها، ثُمَّ قالَ: وغَضِبَ مُوسى فَقالَ لَهم: لِماذا أبْقَيْتُمْ عَلى الإناثِ ؟ وهُنَّ كُنَّ عَشَرَةً لِبَنِي إسْرائِيلَ عَنْ قَوْلِ بِلْعامَ ومَشُورَتِهِ - يَعْنِي بِما أفْضى إلى الزِّنا، ثُمَّ قالَ: وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: كَلِّمْ بَنِي إسْرائِيلَ وقُلْ لَهم: أنْتُمْ جائِزُونَ الأُرْدُنَّ لِتُهْلِكُوا جَمِيعَ سُكّانِ الأرْضِ ونَحْوَ هَذا مِمّا لَعَلَّ بَعْضَهُ أصْرَحُ مِنهُ وقَدْ ذُكِرَ مِنهُ في سُورَةِ المائِدَةِ، وفي وضْعِها أيْضًا في أثْناءِ قِصَصِهِمْ إشارَةٌ إلى تَكْذِيبِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥] وأنَّ المَدارَ في عِصْمَةِ الدَّمِ والمالِ إنَّما هو الإيمانُ والِاسْتِقامَةُ وذَلِكَ مَوْجُودٌ في نَصِّ التَّوْراةِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، وفِيها تَهْدِيدُهم عَلى المُخالَفَةِ في ذَلِكَ بِالذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ، وسَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] الآيَةَ، بَلْ وفِيها ما يَقْتَضِي المَنعَ مِن مالِ المُخالِفِ في الدِّينِ فَإنَّهُ قالَ في وسَطِ السِّفْرِ الثّانِي: وإذا لَقِيتَ ثَوْرَ عَدُوِّكَ أوْ حِمارَهُ وعَلَيْهِ حَمُولَةٌ فارْدُدْها إلَيْهِ، وإذا رَأيْتَ حِمارَ عَدُوِّكَ جاثِمًا تَحْتَ حِمْلِهِ فَهَمَمْتَ أنْ لا تُوازِرَهُ فَوازِرْهُ وساعِدْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلى قِصَصِهِمْ عَلى أحْسَنِ وجْهٍ فَإنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ هَذا الجَزاءَ الَّذِي فَخَّمَ أمْرَهُ تَرْغِيبًا بِإبْهامِهِ ونِسْبَتِهِ إلى حَضْرَةِ الرَّبِّ المُحْسِنِ بِأنْواعِ التَّرْبِيَةِ وأنَّهُ لا خَوْفٌ مَعَهُ ولا حُزْنٌ تَلاهُ بِأنَّهم لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ رُؤْيَةِ ما رَأوْا مِن باهِرِ الآياتِ حَتّى رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ وعَلِمُوا أنَّهُ دافِنُهم إنْ عَصَوْا، فَكانَ قَبُولُهُ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، لِأنَّ حَقَّهُ الرَّدُّ، لِأنَّهُ كالإيمانِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَأْسِ لا إيمانَ بِالغَيْبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب