الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى الكَلامُ في الإنْفاقِ والمالِ المُنْفَقِ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ تَصْرِيحًا وتَلْوِيحًا وخَتَمَ ذَلِكَ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وتَضَمَّنَ ذَلِكَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِأنَّهُ عَلِيمٌ أنَّهُ حَكِيمٌ أتْبَعَ ذَلِكَ الوَصْفَ بِأنَّ مِن سَعَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ أنَّهُ يَهَبُ مِن صِفاتِهِ ما يَشاءُ لِمَن يَشاءُ بِأنْ يُؤْتِيَهُ الحِكْمَةَ فَيُوقِفَهُ عَلى عِلْمِ ما خَفِيَ مِن هَذِهِ الأمْثالِ المُتْقَنَةِ والأقْوالِ الحَسَنَةِ تَصْرِيحًا وتَلْوِيحًا ويُوَفِّقُهُ لِلْعَمَلِ بِذَلِكَ إنْشاءً وتَصْحِيحًا فَقالَ تَعالى مُنَبِّهًا عَلى تَرْجِيحِ العَمَلِ بِأمْرِ الرَّحْمَنِ وقَبُولِ وعْدِهِ بِأنَّهُ عَلى مُقْتَضى العَقْلِ والحِكْمَةِ وأنَّ أمْرَ الشَّيْطانِ ووَعْدَهُ عَلى وفْقِ الهَوى والشَّهْوَةِ: وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا أبْدى سُبْحانَهُ وتَعالى أمْرَ الآخِرَةِ وأظْهَرَ ما فِيها وبَيَّنَ أمْرَ الدُّنْيا مِنَ التَّرْتِيبِ والتَّسْبِيبِ ورَجْعِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ عَوْدًا عَلى بَدْءٍ أنْبَأ تَعالى أنَّ ذَلِكَ مِن حِكْمَتِهِ وأنْهى الحِكْمَةَ لِما فِيها مِنَ اسْتِيفاءِ حِكْمَةِ الدّارَيْنِ فَلَيْسَ الحَكِيمُ مَن عَلِمَ أمْرَ الدُّنْيا بَلْ مَن عَلِمَ (p-٩٤)أمْرَ ما بَيْنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ فَداوى أدْواءَ الدُّنْيا بِدَواءِ الآخِرَةِ وداوى النَّفْسَ بِدَواءِ الدّارَيْنِ وضَمَّ جَوامِعَها في تَيْسِيرِ الكَلِمِ كَما ضَمَّها لِمَنِ اصْطَفاهُ ﴿ذَلِكَ مِمّا أوْحى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: ٣٩] فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ﴾ انْتَهى. وفي تَرْتِيبِها عَلى واسِعٍ عَلِيمٍ بَعْدَ غَنِيٍّ حَمِيدٍ بَعْدَ عَزِيزٍ حَكِيمٍ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّعْرِيضِ لِإنْفاقِ ما يَرُدُّهُ لِعِزَّتِهِ وغِناهُ وسَعَتِهِ ويَذُمُّ عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ لِرَداءَتِهِ أوْ فَسادٍ في نِيَّتِهِ وإنْ خَفِيَ فَإنَّ ذَلِكَ خارِجٌ عَنْ مِنهاجِ الحِكْمَةِ مِنّا ومُقْتَضى الحِكْمَةِ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَما وقَعَ لِقابِيلَ إذْ قَرَّبَ رَدِيئًا كَما هو مَشْهُورٌ في قِصَّتِهِ، ولَعَلَّهُ لَوَّحَ إلَيْهِ بِالتَّذَكُّرِ في خِتامِ هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [البقرة: ٢٧٠] فَصارَ كَأنَّهُ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يُؤْتِي الحِكْمَةَ [وهِيَ العِلْمُ] بِالأشْياءِ عَلى ما هي عَلَيْهِ المُزَيَّنُ بِالعَمَلِ والعَمَلُ المُتْقَنُ بِالعِلْمِ ﴿مَن يَشاءُ﴾ مِن عِبادِهِ، ثُمَّ مَدَحَ مَن حَلّاهُ بِها فَقالَ مُشِيرًا بِبِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ إلى أنَّها مَقْصُودَةٌ في نَفْسِها: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ﴾ أيِ الَّتِي هي صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ، وأشارَ بِالتَّعْرِيفِ إلى كَمالِها (p-٩٥)بِحَسَبِ ما تَحْتَمِلُهُ قُوى العَبِيدِ، والحِكْمَةُ قُوَّةٌ تَجْمَعُ أمْرَيْنِ: العِلْمَ المُطابِقَ وفِعْلَ العَدْلِ وهو العَمَلُ عَلى وفْقِ العِلْمِ. قالَ الأصْبَهانِيُّ: والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ كَمالِ الإنْسانِ لَيْسَ إلّا هاتَيْنِ القُوَّتَيْنِ ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قالَ الحَرالِّيُّ ما مَعْناهُ: إنَّهُ نَكِرَةٌ لِما في الحِكْمَةِ مِنَ التَّسَبُّبِ الَّذِي فِيهِ كُلْفَةٌ ولَوْ يُسِّرَتْ فَكانَ الخَيْرُ الكَثِيرُ المُعَرَّفُ في الكَلِمَةِ لِما فِيها مِنَ اليُسْرِ والحِياطَةِ والإنالَةِ الَّذِي لا يُنالُ مِنهُ مَنالٌ بِسَبَبٍ وإنَّما هو فَضْلُهُ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ فَيَصِيرُ سُبْحانَهُ وتَعالى سَمْعَهُ وبَصَرَهُ. إلى آخِرِهِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُوتِيَ الحِكْمَةَ يَصِيرُ ذا لُبٍّ فَيَتَأهَّلُ لِأنْ يَتَذَكَّرَ بِما يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن كَلِمَتِهِ ما بَثَّ في الأنْفُسِ والآفاقِ مِن حِكْمَتِهِ وصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: ﴿وما يَذَّكَّرُ﴾ أيْ بِكَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى حِكَمَهُ ﴿إلا أُولُو الألْبابِ﴾ (p-٩٦)أيْ أصْحابُ العُقُولِ الصّافِيَةِ عَنْ دَواعِي الهَوى المُنْبَعِثَةِ مِنَ التَّوَهُّماتِ الحاصِلَةِ عَنِ الوَسْوَسَةِ فَهم يَتَرَقَّوْنَ بِالتَّذَكُّرِ بِأنَّهم لا حَوْلَ لَهم عَنِ المُسَبِّباتِ إلى أسْبابِها إلى أنْ يَصِلُوا إلى مُسَبِّبِها فَيَعْرِفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وقالالحَرالِّيُّ: الَّذِينَ لَهم لُبُّ العَقْلِ الَّذِي يَنالُ لُبَّ الحِسِّ كَأنَّ الدُّنْيا قِشْرٌ تُنالُ بِظاهِرِ العَقْلِ، والآخِرَةَ لُبٌّ تُنالُ بِلُبِّ العَقْلِ ظاهِرًا لِظاهِرٍ وباطِنًا لِباطِنٍ، مَن تَذَكَّرَ ابْتِداءً مِنَ الابْتِداءاتِ السّابِقَةِ ورَدَ عَلَيْهِ فَضْلُ اللَّهِ مِنهُ، مَن رَجَعَ مِن حِسِّهِ إلى نَفْسِهِ تَنَشَّأتْ لَهُ أوْصافُ الفَضائِلِ النَّفْسانِيَّةِ وتَرَقّى عَمّا في مَحْسُوسِهِ مِنَ المَهاوِي الشَّهْوانِيَّةِ، ومَن تَخَلَّصَ مِن نَفْسِهِ إلى رُوحِهِ تَحَسَّسَ بِالوَصْلَةِ الرَّحْمانِيَّةِ والمَحَبَّةِ الرَّبّانِيَّةِ، كَذَلِكَ مَن تَرَقّى مِن رُوحِهِ إلى أمْرِهِ تَحَقَّقَ بِالإحاطَةِ الوَحْدانِيَّةِ، ومَنِ اسْتَبْطَنَ مِن أمْرِهِ إلى سِرِّهِ اجْتَمَعَ إلى الأوَّلِيَّةِ الفَرْدانِيَّةِ؛ فَهَذا التَّرْتِيبُ مِن كَمالاتِ هَذِهِ الحِكْمَةِ المُؤْتاةِ المُنَزَّلَةِ بِالوَحْيِ في هَذا الكِتابِ الجامِعِ لِنَبَإ ما سَبَقَ وخَبَرِ ما لَحِقَ وباطِنِ ما ظَهَرَ أنْهى تَعالى إلى ذِكْرِها أعْمالَ (p-٩٧)الخَلْقِ وخُصُوصًا في الجُودِ بِالمَوْجُودِ كَما أنْهى إقامَةَ مَبْنى الدِّينِ بِظُهُورِ وُجُودِهِ، فَأنْهى تَنْزِيلَ أمْرِهِ بِظُهُورِ وُجُودِهِ وأنْهى اسْتِخْلافَ عِبادِهِ بِالِانْتِهاءِ إلى مَدَدِ جُودِهِ، فَكانَ أعْلى الحِكْمَةِ الجُودُ [بِالمَوْجُودِ] فَبِذَلِكَ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - اتَّصَلَ ذِكْرُ آيَةِ الحِكْمَةِ بِالإنْفاقِ نَظْمًا وبِآيَةِ الكُرْسِيِّ مُناظَرَةً. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب